بسم الله الرحمن الرحيم{ المص 1 كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ 2 اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ 3}
{ المص} هذه حروف مركبة في الرسم بشكل كلمة ذات أربعة أحرف ولكنها تقرأ بأسماء هذه الأحرف ساكنة هكذا ألف .لام .ميم .صاد .والمختار عندنا أن حكمة افتتاح هذه السورة وأمثالها بأسماء حروف ليس لها معنى مفهوم غير مسمى تلك الحروف التي يتركب منها الكلام هي تنبيه السامع إلى ما سيلقى إليه بعد هذا الصوت من الكلام حتى لا يفوته منه شيء .فهي كأداة الافتتاح"ألا "وهاء التنبيه .وإنما خصت سور معينة{[1108]} من الطول والمئين والمثاني والمفصل بهذا الضرب من الافتتاح لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يتلوها على المشركين بمكة لدعوتهم بها إلى الإسلام وإثبات الوحي والنبوة ، وكلها مكية إلا الزهراوين البقرة وآل عمران وكانت الدعوة فيهما موجهة إلى أهل الكتاب وكلها مفتتحة بذكر الكتاب إلا سورة مريم وسورتي العنكبوت والروم وسورة"ن "وفي كل منهما معنى مما في هذه السور يتعلق بإثبات النبوة والكتاب .
فأما سورة مريم فقد فصلت فيها قصتها بعد قصة يحيى وزكريا المشابهة لها .ويتلوهما ذكر رسالة إبراهيم وموسى وإسماعيل وإدريس مبدوءا كل منها بقوله تعالى:{ واذكر في الكتاب} ( مريم 16 ) والمراد بالكتاب القرآن فكأنه قال في كل من قصة زكريا ويحيى وقصة مريم وعيسى{ واذكر في الكتاب} ..وذكر هذه القصص في القرآن من دلائل كونه من عند الله تعالى لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلم هذا لا هو ولا قومه كما صرح به في سورة هود بعد تفصيل قصة نوح مع قومه بقوله:{ تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا ، فاصبر إن العاقبة للمتقين} ( هود 49 ) وكما قال في آخر سورة يوسف بعد سرد قصته مع إخوته{ ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليه وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون} ( يوسف 102 ) وختمت هذه السورة"أي سورة مريم "بإبطال الشرك وإثبات التوحيد ونفي اتخاذ الله تعالى لولد وتقرير عقيدة البعث والجزاء .فهي بمعنى سائر السور التي كانت تتلى للدعوة ويقصد بها إثبات التوحيد والبعث ورسالة خاتم النبيين وصدق كتابه الحكيم .
وأما سورة العنكبوت وسورة الروم فكل منهما قد افتتحت بعد"الم "بذكر أمر من أهم الأمور المتعلقة بالدعوة .فالأول الفتنة في الدين .وهي إيذاء الأقوياء للضعفاء واضطهادهم لأجل إرجاعهم عن دينهم بالقوة القاهرة .كان مشركو قريش يظنون أنهم يطفئون نور الإسلام ويبطلون دعوته بفتنتهم للسابقين إليه وأكثرهم من الضعفاء الذين لا ناصر لهم من الأقوياء بحمية نسب ولا ولاء .وكان المضطهدون من المؤمنين يجهلون حكمة الله بظهور أعدائه عليهم .فبين الله في فاتحة هذه السورة أن الفتنة في الدين من سننه تعالى في نظام الاجتماع يمتاز بها الصادقون من الكاذبين ، ليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين ، وتكون العاقبة للمتقين الصابرين فكانت السورة جديرة بأن تفتتح بالحروف المنبهة لما بعدها .
والأمر الثاني الذي افتتحت به سورة الروم هو الإنباء بأمر وقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولما يكن وصل خبره إلى قومه وبما سيعقبه مما هو ضمير الغيب .ذلك أن دولة فارس غلبت دولة الروم في القتال الذي كان قد طال أمره بينهما فأخبر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بذلك وبأن الأمر سيدول وتغلب الروم الفرس في مدى بضع سنين .وبأن الله تعالى ينصر في ذلك اليوم المؤمنين على المشركين ، وقد صدق الخبر الوعد فكان كل منهما معجزة من أظهر معجزات القرآن والآيات المثبتة لرسالة محمد عليه الصلاة والسلام .ولو فات من تلاها عليهم النبي صلى الله عليه وسلم كلمة من أولها لما فهموا مما بعدها شيئا فكانت جديرة بأن تبدأ بهذه الحروف المسترعية للأسماع المنبهة للأذهان .وكان هذا بعد انتشار الإسلام بعض الانتشار ، وتصدي رؤساء قريش لمنع الرسول صلى الله عليه وسلم من الدعوة وتلاوة القرآن على الناس ولاسيما في موسم الحاج .وكان السفهاء يلغطون إذا قرأ ويصخبون{ وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن وألغوا فيه لعلكم تغلبون} ( فصلت 26 ) .
وأما سورة"ن "ففاتحتها وخاتمتها في بيان تعظيم شأن الرسول صاحب الدعوة صلى اله عليه وسلم ودفع شبهة الجنون عنه ، وهي أول ما نزل بعد سورة{ اقرأ باسم ربك} وكانت شبهة رميه حماه الله وكرمه بتهمة الجنون مما يتبادر إلى الأذهان من غير عداوة ولا مكابرة .فإن رجلا أميا فقيرا وادعا مسالما ، وليس برئيس قوم ، ولا قائد جند ، ولا ذي تأثير في الشعب بخطابة ولا شعر ، يدعي أن جميع البشر على ضلال الكفر والفسق ، وأنه مرسل من الله لهداية هؤلاء الخلق وأن دينه سيهدي العرب والعجم وإصلاح شرعه سيعم جميع الأمم ، لا يستغرب من مدارك أولئك المشركين الأميين الجاهلين بسنن الله في الأمم وآياته في تأييد المرسلين ، وأن يكون أول ما يصفون به صاحب هذه الدعوى قبل ظهور الآيات والعلوم بقولهم: "إنه لمجنون "{[1109]} وبعد ظهورها بقولهم: "ساحر أو كاهن أو مجنون "{[1110]} وبعد ظهور العلم والعرفان بقولهم: "معلم مجنون "{[1111]}{ كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به ؟ بل هم قوم طاغون} ( الذاريات 52 ) .
نعم قد قيل:إن"ن "هنا بمعنى الدواة ولذلك قرن بالقلم لبيان أن هذا الدين يقوم بالعلم والكتابة كما قال في أول ما نزل عليه قبلها{ اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم} ( العلق 3- 4 ) وقيل إنه بمعنى الحوت لأن في السورة ذكرا لصاحب الحوت يونس عليه السلام .ولو صح هذا أو ذاك لما كتبت النون مفردة ونطقت ساكنة .بل كانت تذكر مركبة ومعربة كقوله:{ وذا النون إذ ذهبت مغاضبا} ( الأنبياء 87 ) وإنما يصح أن يكون فيها إشارة إلى ما ذكر كما يصح في سائر تلك الحروف أن يكون فيها إشارات إلى معاني معينة تظهر لبعض الناس دون بعض أو غير معينة تذهب فيها الأفهام مذاهب تفيد أصحابها علما أو عبرة بشرط أن تتفق مع هداية القرآن وإن لم يصح أن يقال:إنها مرادة لله تعالى بحسب دلالة الألفاظ العربية على معانيها .ومن هذا القبيل الأخير جعل بعض مفسري السلف هذه الأحرف مقتطعة من أسماء الله تعالى أو من جمل من الكلام تشتمل عليها:أخرج أكثر رواة التفسير المأثور والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عابس في ( المص ) قال أنا الله أفصل ورواه ابن جرير عن سعيد بن جبير وروى هو وابن أبي حاتم عن السدي فيه قال:هو المصور .وروى ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن محمد بن كعب القرظي فيه قال:الألف من الله والميم من الرحمن والصاد من الصمد .وأبو الشيخ عن الضحاك فيه قال:أنا الله الصادق .وروى أبناء جرير والمنذر وأبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله:{ المص وطه وطسم وحمعسق وق ون} وأشباه هذا أنه قسم أقسم الله به وهي من أسماء الله تعالى .
وأقرب من هذا إلى الفهم أنها أسماء للسور والاسم المرتجل لا يعلل وهو ما اخترناه في تفسير ألم من سورتي البقرة وآل عمران وعليه الأكثر ، وهو لا ينافي ما بيناه من الحكمة آنفا وهي التي فتح علينا بها في درس التفسير الذي كنا نلقيه في مدرسة دار الدعوة والإرشاد وقد فصلناه فيه أتم تفصيل ، إذ أثبتنا أن من حسن البيان وبلاغة التعبير ، التي غايتها إفهام المراد مع الإقناع والتأثير ، أن ينبه المتكلم المخاطب إلى مهمات كلامه والمقاصد الأولى بها ، ويحرص على أن يحيط علمه بما يريده هو منها ، ويجتهد في إنزالها من نفسه في أفضل منازلها ومن ذلك التنبيه لها قبل البدء بها لكيلا يفوته شيء منها .وقد جعلت العرب منه هاء التنبيه وأداة الاستفتاح فأي غرابة في أن يزيد عليها القرآن الذي بلغ حد الإعجاز في البلاغة وحسن البيان ويجب أن يكون فيها الإمام المقتدى ، كما أنه هو الإمام في الإصلاح والهدى ؟
ومنه ما يقع في أثناء الخطاب من رفع الصوت وتكييفه بما تقتضيه الحال من صيحة التخويف والزجر ، أو غنة الاسترحام والعطف ، أو رنة النعي وإثارة الحزن أو نغمة التشويق والشجو ، أو هيعة الاستصراخ عند الفزع أو صخب التهويش وقت الجدل ومنه الاستعانة بالإشارات وتصوير المعاني بالحركات{[1112]} ومنه كتابة بعض الكلمات أو الجمل بحروف كبيرة أو وضع خط فوقها أو تحتها .حتى رووا عن عليان الممرور ( الموسوس ) أنه سئل أي بيت تقوله العرب أشعر قال البيت الذي لا يحجب عن القلب قيل ماذا ؟ قال مثل قول جميل:
ألا أيها النوام ويحكم هبوا *** أسائلكم هل يقتل الرجل الحب
وكنت أحفظ أنه رفع صوته بالمصراع الأول وخفضه ورققه بالمصراع الثاني وعلله بأنه خاطب بالأول غافلين سماهم نواما فإنه أراد الإيقاظ والتنبيه .وخاطب بالثاني مستيقظين يسألهم عن أمر يرق له القلب ويخشع له الصوت ولكني راجعت العقد الفريد فرأيته ينقل عنه أنه عكس في الصوت وعلله بقوله:ألا ترى النصف الأول كيف استأذن على القلب فلم يأذن له ، والنصف الثاني استأذن على القلب فأذن له .
ومنه أنه قد ورد الأمر في القرآن نفسه بترتيله وقراءته على مكث والحث على الخشوع فيه والتأثر بقراءته ، وفي المسند والسنن من حديث البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "زينوا القرآن بأصواتكم "{[1113]} وفي رواية"حسنوا القرآن بأصواتكم فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسنا "{[1114]} وكان أهل البصيرة في الدين الجامعين بين العلم والعمل والتخلق يراعون في التلاوة والمعاني وما يؤثر في القلب .
قال أبو حامد الغزالي في الأدب الثامن من آداب التلاوة الباطنة وهو ( التأثر ):هو أن يتأثر قلبه بآثار مختلفة بحسب اختلاف الآيات فيكون له بحسب كل فهم حال ووجد يتصف به قلبه من الحزن والخوف والرجاء وغيره ، ثم قال:فتأثر العبد بالتلاوة أن يصير بصفة الآية المتلوة فعند الوعيد وتقييد المغفرة بالشروط"أي كقوله تعالى:{ إني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى} ( طه 82 ) يتضاءل من خيفته كأنه يكاد يموت وعند التوسع ووعد المغفرة يستبشر كأنه يطير من الفرح وعند ذكر الله وصفاته وأسمائه يتطأطأ خضوعا لجلاله واستشعارا لعظمته وعند ذكر الكفار ما يستحيل على الله عز وجل كذكرهم لله عز وجل ولدا وصاحبة يغض من صوته وينكسر في باطنه حياء من قبح مقالتهم وعند وصف الجنة ينبعث بباطنه شوقا إليها وعند وصف النار ترتعد فرائضه خوفا منها اه وقد ذكر في موضع آخر أن بعضهم قرأ قوله تعالى حكاية عن فرعون{ فحشر فنادى فقال أنا ربكم الأعلى} ( النازعات 23- 24 ) فخفض صوته كالمستحي من الله عز وجل .
أقول والواجب في مثل ما ذكر أن يكون خاليا من التكلف والصنعة التي يقصد بها التأثير في قلوب الناس لكسب إعجابهم كما يفعل المراءون ، ولكن بعض المسلمين اتبعوا في هذا سنن من قبلهم من أهل الكتاب وغيرهم الذين جعلوا عبادتهم أغاني ومعازف مطربة أو مشجية لاستمالة الناس إليهم .وقد ورد في الحديث"اقرؤوا القرآن بلحون العرب وأصواتهم وإياكم ولحون أهل الكتابين وأهل الفسق فإنه سيجيء أقوام يرجعون بالقرآن ترجيع الغناء والرهبانية لا يجاوز حناجرهم ، مفتونة قلوبهم من يعجبه شأنهم "رواه الطبراني والبيهقي .
قال السخاوي في كتابه جمال القراء:قد ابتدع الناس في قراءة القرآن أصوات الغناء .ومما ابتدعوه شيء سموه الترعيد وهو أن يرعد صوته كأنه يرعد من برد أو ألم وآخر سموه الترقيص وهو أن يروم الوقوف على الساكن ثم ينفر مع الحركة كأنه في عدو أو هرولة وآخر يسمونه التطريب وهو أن يترنم بالقرآن ويتنغم به فيما في غير موضع المد ويزيد على المد ما لا ينبغي وآخر يسمى التحزين وهو أن يأتي على وجه حزين يكاد يبكي مع خشوع وخضوع اه المراد منه وهذا الأخير إذا كان خشوعا وخضوعا خالصا لله فهو حسن وكذا إن كان لتعويد النفس على ذلك كما في الحديث الآتي ولكن القبيح إذا كان تكلفا يقصد به الرياء والسمعة وقد قال الله تعالى في العلماء الذين يتلى عليهم القرآن:{ ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا} ( الإسراء 109 ) وكان النبي والصحابة وغيرهم من السلف يبكون لقراءة القرآن وسماعه وما زال المؤمنون الخاشعون كذلك .وفي حديث سعد بن مالك مرفوعا"إن هذا القرآن نزل بحزن وكآبة فإذا قرأتموه فابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا "رواه البيهقي في الشعب والمراد بالتباكي تكلف البكاء على سبيل تربية النفس وتعويدها من باب"والحلم بالتحلم "لا تكلف المرائين .
ولا شك في أن كل مؤمن وكل محب لاطلاع على الحقائق والوقائع المؤثرة في أطوار البشر يعتقد أن قراءة النبي صلى الله عليه سلم للقرآن كانت أعظم المؤثرات في إيصال علمه وهدايته إلى القلوب المستعدة والعقول المفكرة .ولو حفظت تلاوته صلى الله عليه وسلم في آلة كالآلات الحافظة للأصوات المعيدة لها الموجودة اليوم لبذل المؤمنون به وغير المؤمنين الألوف من الدنانير في سماعها وقد صور ذاك أحد فلاسفة الفرنسيس فقال في الرد على من زعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤيد في دعوته بمثل ما أيد به موسى وعيسى ما معناه:كان محمد صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن على الناس في حال تأثر وتأثير{[1115]} فيكون لتلاوته من جذب سامعيه إلى الإيمان به ما هو أعظم من كل ما فعلت آيات من قبله في جذب الناس إلى الإيمان بهم اه الله أكبر إني لأمثل في نفسي قراءته صلى الله عليه وسلم لسورة{ ق} على المنبر ، واقرأها بما أقدر عليه من الأسوة ، فتخنقني العبرة ، وتكاد تقتلني فتحيني العبرة{ إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد} ( ق 37 ) فليجربه{ من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب} ( ق 33 ) .
وهذا وإني بعد أن هديت إلى هذه الحكمة لبدء سورة مخصوصة بهذه الأحرف بحثت عن سلف لي في ذلك فراجعت التفسير الكبير للرازي لسعة اطلاعه وبسطه لكل ما اطلع عليه ولم أكن أقرأ مثل هذا منه فألفيته قد ذكر للناس قولين في هذه الأحرف ( أحدهما ):أنها علم مستور وسر محجوب استأثر الله تعالى به وأنه روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال:في كل كتاب سر وسره في القرآن أوائل السور ، وعن علي كرم الله وجهه .:أن لكل كتاب صفوة وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي ( ونقول قد نقل أهل الأثر عن الخلفاء الأربعة وابن مسعود أن هذه الحروف مما استأثر الله بعلمه ) ثم ذكر أن المتكلمين أنكروا هذا القول واحتجوا عليه بالآيات والأحاديث والمعقول وفصل ذلك .( ثانيهما ):أن معناها معلوم ونقل من أقوالهم فيها 21 قولا ، الثاني عشر منها قول ابن روق وقطرب أن الكفار لما قالوا:{ لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون} ( فصلت 26 ) وتواصوا بالإعراض عنه أراد الله تعالى لما أحب من صلاحهم ونفعهم أن يورد عليهم ما لا يعرفونه ليكون سببا لإسكاتهم واستماعهم لما يرد عليهم من القرآن فأنزل الله عليهم هذه الحروف فكانوا إذا سمعوها قالوا كالمتعجبين:اسمعوا إلى ما يجيء به محمد عليه السلام فإذا أصغوا هجم عليهم القرآن ، فكان ذلك سببا لاستماعهم ، وطريقا إلى انتفاعهم اه سمى هذا حكمة في مواضع أخرى ، وهو كما قلنا ، ثم علمت أن للشيخ محيي الدين بن عربي تفسيرا مختصرا على طريقة المفسرين لا الصوفية اقتصر فيه على هذا المعنى .
وفي شرح الإحياء بعد ذكر القول بأن هذه الحروف تنبيهات ما نصه:قال الحربي القول بأنها تنبيهات جيد لأن القرآن كلام عزيز وفوائده عزيزة فينبغي أن يرد على سمع منتبه فكان من الجائز أن يكون قد علم في بعض الأوقات كون النبي صلى الله عليه وسلم في عالم البشر مشغولا فأمر جبريل بأن يقول عند نزوله:ألم ، وحم ليسمع النبي صلى الله عليه وسلم صوت جبريل فيقبل عليه ويصغى إليه قال:وإنما لم تستعمل الكلمات المشهورة في التنبيه كألا وأما لأنها من الألفاظ التي تعارفها الناس في كلامهم والقرآن كلام لا يشبه الكلام فناسب أن يؤتى فيه بألفاظ تنبيه لم تعهد ليكون أبلغ في قرع سمعه اه وقيل إن العرب إذا سمعوا القرآن لغوا فيه فأنزل الله هذا النظم البديع ليعجبوا منه ويكون تعجبهم منه سببا لاستماعهم له واستماعهم له سببا لاستماع ما بعده فتفرق القلوب وتلين الأفئدة اه .
وأقول:إن جعل التنبيه للنبي صلى الله عليه وسلم مستبعد وقد كان ينتبه وتغلب الروحانية على طبعه الشريف بمجرد نزول الروح الأمين عليه ودنوه منه كما يعلم مما ورد في نزول الوحي من الأحاديث الصحيحة ، ولا يظهر فيه وجه تخصيص بعض السور بالتنبيه .وإنما كان التنبيه أولا وبالذات للمشركين في مكة ثم لأهل الكتاب في المدينة كما تقدم قريبا إذ كان المؤمنون يتوجهون بكل قواهم إلى ما يتلوه الرسل صلى الله عليه وسلم وكله عندهم سواء فهم مقصودون بهذا التنبيه بالدرجة الثانية .
وقد ظهر بما استقصيناه من التتبع أنه لم يبين هذه الحكمة أحد بمثل ما بيناها به ابتداء ولله الحمد ، ولو رأى مثل هذا البيان ابن كثير لما ضعف هذا الوجه إذ نقله موجزا مجملا عن ابن جرير ، وقد رجح هو ما ذهب إليه كثير من العلماء من أن حكمة ذكر هذه الحروف بيان إعجاز القرآن بالإشارة إلى أنه مركب من هذه الحروف المفردة التي يتألف منها جميع الكلام العربي ، وقد أطنب في تقرير ذلك من مفسري علماء البلاغة الزمخشري ، وتلاه البيضاوي ، واختاره من علماء المنقول والمعقول ابن تيمية وتبعه تلميذه الحافظ المزي فيراجع في محله .