{ كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ} إذا قيل إن{ ألمص} اسم للسورة فهو مبتدأ خبره كتاب وإلا فهذا خبر لمبتدأ محذوف تقديره ذلك كتاب ، كقوله:ألم ذلك الكتاب:وتنكير كتاب للتعظيم والتفخيم .والمراد به على القول الثاني جملة القرآن المشار إلى بعضه المنزل بالفعل وجملة"أنزل إليك "صفة له دالة على كمال تعظيم قدره وقدر من أنزل إليه ولذلك سميت الليلة التي كان بدء نزوله فيها بليلة القدر .وإنما قيل: "أنزل "ولم يقل أنزله الله أو أنزلناه إيجازا مؤذنا بأن المنزل مستغن عن التعريف وعن إسناده إلى الضمير أو الاسم الصريح فإن هذا الكتاب البديع لا يمكن أن يكون إلا من فوق ذلك العرش الرفيع .
{ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ} حرج الصدر ضيقه وغمه ، وهو من الحرجة التي هي مجتمع الشجر المشتبك الملتف الذي لا يجد السالك فيه سبيلا ينفذ منه ، أو الذي لا يقلب الزيادة كما قال الراغب ، وقد فسر الحج هنا بمعناه اللغوي وروي عن الضحاك ، وروي عن ابن عباس ومجاهد تفسيره بالشك كما في الدر المنثور وعزاه ابن كثير إلى مجاهد وقتادة .ووجهوه بأن الشك ضرب من ضروب حرج الصدر وضيق القلب ، وتقدم تفسير مثله في الأنعام ( الآية 124 ) وقال الراغب في هذه الجملة قيل هي نهي وقيل دعاء وقيل حكم منه نحو{ ألم نشرح لك صدرك} ( الشرح 1 ) اه .
والنهي أو الدعاء عن أمر يتعلق بالمستقبل دليل على أنه مظنة الوقوع في نفسه ، وبحسب سنن الله ونظام الأسباب في خلقه ، والأمر هنا كذلك إلا أن يحول دون وقوعه مانع كعناية الله وتأييده ، فإن هذا القرآن أمر عظيم بل هو أعظم شأن بين الله تعالى وبين عباده وقد كان في أول ما نزل قوله عز وجل:{ إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا} ( المزمل 5 ) ثم نزل في تفسيره{ لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون} ( الحشر 21 ) وكان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه الوحي وهو يتفصد عرقا ، وكان يكاد يهيم بشدة وقعه وعظم تأثيره حتى كاد يلقى بنفسه من شاهق الجبل ، وأي قلب يحتمل وصدر يتسع لكلام الله العظيم ينزل به عليه الروح الأمين ، إذا لم يتول سبحانه بفضله شرحه ، وإعانته على حمله وهو ما امتن به على رسوله بقوله{ ألم نشرح لك صدرك ووضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك} ( الشرح 1- 3 ) فهذا وجه مظنة وقوع الحرج بمعناه اللغوي الأصلي بالنسبة إلى الرسول نفسه ، وكونه تعالى صرفه عنه بشرحه لصدره .ويصح فيه أن يكون النهي تكوينيا .
وله وجه آخر باعتبار تبليغه إياه فإنه صلى الله عليه وسلم كلف به هداية الثقلين ، وإصلاح أهل الخافقين ، ومن المتوقع المعلوم بالبداهة أن المتصدي لذلك لا بد أن يلقى أشد الإيذاء والمقاومة ، والطعن في كتاب الله ، والإعراض عن آيات الله ، وهي أسباب لضيق الصدر كما قال تعالى في آخر سورة الحجر:{ ولقد نعلم إنك يضيق صدرك بما يقولون} ( الحجر 97 ) وفي آخر سورة النحل بعدها{ واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون} ( النحل 127 ) ومثله في سورة النمل .وقال تعالى في أوائل سورة هود{ فلعلك تارك بعض ما يوحي إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك ؟ إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل} ( هود 12 ) والمراد من النهي عن أمر طبيعي كهذا الاجتهاد في مقاومته والتسلي عنه وبوعد الله والتأسي بمن سبق من رسله عليهم السلام .
فهذان الوجهان الوجيهان من تفسير القرآن بالقرآن ينافيان ما روي من تفسير الحرج بالشك ، ويغنيان عما تمحله المفسرون في توجيهه بالتأويل الشبيه بالمحل وما أكثر ما روي في التفسير بصحيح حتى بالغ الإمام احمد فقال لا يصح فيه شيء ، وما كل ما صح منه مقبول ، إلا إذا صح رفعه إلى المعصوم ، صلى الله عليه وآله وسلم .وأما قوله تعالى في سورة يونس:فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك} ( يونس 94 ) فهو على سبيل فرض المحال المألوف في أمثال هذه المواضع والمحال وشرط"إن "لا يقتضي الوقوع بحال من الأحوال .ومثله في هذه السورة قوله تعالى بعد نهيه صلى الله عليه وسلم عن دعاء غير الله{ فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين} ( يونس 106 ) وقوله في غيرها{ قل إن كان للرحمن ولدا فأنا أول العابدين} ( الزخرف 81 ) وفي ابن جرير وغيره انه صلى الله عليه وسلم قال في آية يونس"لا أشك ولا أسأل ".
وقوله تعالى:{ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِين} تعليل لإنزال الكتاب والجملة قبله معترضة بين العلة والمعلول لإفادة أن الإنذار به إنما يكون مطلقا أو على وجه الكمال مع انتفاء الحرج من الصدر ، وانشراحه للنهوض بأعباء هذا الأمر ، وقيل تعليل للنهي عن الحرج على أن اللام مصدرية كقوله:{ يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم} ( الصف 8 ) أي فلا يكن في صدرك حرج منه لأجل الإنذار به لئلا يكذبك الناس ، والإنذار التعليم المقترن بالتخويف من سوء عاقبة المخالفة ، وهو يتعدى إلى مفعولين:المنذر والعقاب الذي ينذره أي يخوف من وقوعه به ، ومنه قوله:{ إنا أنذرناكم عذابا قريبا} ( النبأ 40 ) وقوله:{ وينذرونكم لقاء يومكم هذا} ( الأنعام 130 ) والمفعولان يذكران كلاهما تارة ويذكر أحدهما تارة بعد أخرى بحسب المناسبات وقد حذف كل منهما هنا لإفادة العموم حسب القاعدة أي لتنذر به جميع الناس إذ تبلغهم دين الله وكل ما يتلى عليك في الكتاب من عقابه تعالى لمن يعصي رسله في الدنيا والآخرة فهو إيجاز بليغ يدل على عموم بعثته صلى الله عليه وسلم كقوله في سورة الأنعام{ ولتنذر أم القرى ومن حولها} ( الأنعام 93 ) وقد صرح بجعل الإنذار عاما لأمة البعثة كافة بقوله:{ تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا} ( الفرقان 1 ) وكثيرا ما يوجه إلى الكفار والظالمين لأنهم هم الذين يعاقبون حتما ، وقد يخص به المؤمنون المتقون بأنهم هم المنتفعون به قطعا ، كقوله تعالى:{ إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب} ( فاطر 18 ) وقوله{ إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب} ( يس 11 ) وقوله:{ وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم} ( الأنعام 51 ) الآية .
وأما الذكرى فهي مصدر لذكر الشيء بقلبه وبلسانه والاسم الذكر بالضم وكذا بالكسر قال في المصباح:نص عليه جماعة منهم أبو عبيدة وابن قتيبة ، وأنكر الفراء الكسر في ذكر القلب وقال:اجعلني على ذكر منك ، بالضم لا غير ولهذا اقتصر جماعة عليه اه وقال الراغب:والذكرى كثرة الذكر وهو أبلغ من الذكر .اه ولعله أخذ هذا المعنى من كثرة استعمالها في القرآن بمعنى التذكر النافع والموعظة المؤثرة ولا أذكر أنها استعملت فيه بمعنى ذكر اللسان إلا في قوله تعالى:{ يسألونك عن الساعة أيان مرساها ؟ فيما أنت من ذكراها} ( النازعات 42- 43 ) ولا بمعنى مطلق التذكر إلى في قوله:{ فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين} ( الأنعام 68 ) لأنه في مقابل الإنساء .وقد خصها هنا بالمؤمنين لأنهم هم الذين ينتفعون بالمواعظ كما قال في الذاريات{ وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين} ( الذاريات 55 ) ومثله في سورة العنكبوت{ وذكرى لقوم يؤمنون} ( العنكبوت 51 ) وفي سورة الأنبياء{ وذكرى للعابدين} ( الأنبياء 84 ) وفي سورة ص{ وذكرى لأولي الألباب} ( ص 43 ) وفي سورة ق{ تبصرة وذكرى لكل عبد منيب} ( ق 8 ) .
والمراد بالمؤمنين هنا من كتب الله لهم الإيمان سواء كانوا آمنوا عند نزول السورة أم لا .وتقدير الكلام مع ما قبله .أنزل إليك الكتاب لتنذر به قومك وسائر الناس ، وتذكر به أهل الإيمان وتعظهم ذكرى نافعة مؤثرة لأنهم هم المستعدون للاهتداء به أو أنزل إليك للإنذار العام والذكرى الخاصة ، أو وهو ذكرى أو حال كونه ذكرى لمن آمنوا ولمن علم الله أنهم يؤمنون .