{حَرَجٌ}: ضيق ،شكّ .أصل الحرج والحراج مجتمع الشيء ،وتُصور منه ضيق ما بينهما فقيل للضيق حرج وللإثم حرج
{وَذِكْرَى}: تذكر نافع .وهو كثرة الذكر ،وهو أبلغ من الذكر ،قال في المجمع: الذكرى مصدر ذكّر يذكّر تذكيراً ،فهي اسم للتذكير وفيه مبالغة
{كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ} أي هذا الكتاب ،أنزله الله إليك وحياً منه ،في ما يريد للناس أن يسيروا على هديه من فكرٍ وخط عمل ،وفي ما يريد للحياة أن ترتكز عليه أو تنطلق منه ،من قاعدةٍ أو هدف ،حتى يتحرك الكون في نظامه البشري على خط الإرادة الإنسانية المؤمنة الواعية المنسجمة مع إرادة الله ،في ما يحب للإنسان أن يمارسه من عملية الاختيار ،ليتطابق مع التوازن والحكمة في نظامه الكوني .ولا بد للإنسان ،الذي يحمل مسؤولية قيادة الناس على خط الرسالة إلى الصراط المستقيم ،من أن يعاني الصدمات والتحدّيات ،ويواجه العقبات من القوى المضادّة التي لا تريد للحياة أن تنضبط وتتوازن ،ولا ترضى للإنسان أن يستقيم .وربما كان من الطبيعيّ لهذا الإنساننبيّاً كان أو غيرهأن يتأثَّر نفسياً بالمشاعر السلبية في ما تتمثل به من ضيق الصدر ،واختناق الروح ،وفي ما تؤدي إليه من خطواتٍ تراجعيةٍ للتخلّص من ذلك كله .
ولهذا أراد الله لرسولهكما أراد للدعاة من بعده ،أن يعيش في نفسه إيجابية الانفتاح الروحي والشعوري على مشاكل ساحة الصراع ،باعتبارها حالةً طبيعيةً تتحرك في نطاق السنن الكونية التي حدّدها الله لعملية التغيير في ما تفرضه من المراحل المتدرجة التي تبدأ من مرحلة الدعوة والتوعية ،وتنطلق في حركة الحوار على خط الصراع ،وتمتدّ في عملية المواجهة الحادّة التي تتقابل فيها الإيجابيات والسلبيّات ،وتتصارع فيها الانفعالات والمشاعر والأفكار ...وهكذا لن يكون الضيق النفسيّ والتشنُّج الفكري والروحي في مصلحة النتائج الإيجابية المرتقبة في حركة الدعوة والداعية في نهاية المطاف .وبتعبير آخر ،إن هناك مزاجاً للإنسانالبشر في الرسول أو في الداعية ،وهو المزاج الذي يتحرّك من خلال النوازع الذاتية في ما يعيشه من عوامل إثارة الانفعال الداخلي ،وإنَّ هناك مزاجاً للإنسانالرسول في شخصيته ،وهو المزاج الذي تتحرّك فيه الرسالة ،في وعيها للامتداد الرسالي في خط الزمن في ما تنفتح عليه من رحابة صدر لا يضيق بشيء ،وسماحة روح لا تتعقّد من شيء ،وانفتاح فكرٍ لا يتهرّب من شيء ،لأن قصة الرسالة هي أن تصل إلى هدفها ولو بعد حين ،بينما هدف الذات هو أن ترتاح مشاعرها في نطاق اللحظة الحاضرة .
وهكذا أراد الله لرسوله أن يعيش روحية الرسالة ،لا عقدة الذات ،{فَلاَ يَكُن فِى صَدْرِكَ} أي يا محمد{حَرَجٌ} أي من الكتاب ،لما سيثيره حولك من مشاكل وقضايا في حياة الناس ،ولما سوف تواجهه من الانحرافات التي تحوّلت إلى مناهج في الفكر وفي الحياة ،ولما ستواجهه من الأوضاع التي تحوّلت إلى عاداتٍ وتقاليد ،ومن الأساليب التي درج عليها الناس في طريقة إدارتهم للعلاقات والانتماءات ،بما سيحوّله إلى عنصر إتعاب وإجهاد لك ،كما أن الواقع الذي تريد تغييره يجعلك تقف في مواجهة كل القوى المتضررة من عملية التغيير ،فتفقدمن خلال ذلككثيراً من الأصدقاء والأقرباء الذين يسيرون في الإتجاه الآخر ،فعليك أن لا تشعر بالضيق والحرج من ذلك كله ،بل يجب أن تستمر في حمل مسؤوليتك في إبلاغ الكتاب إلى الناس ،{لِتُنذِرَ بِهِ} ليعرف الناس من خلال النتائج السلبية التي تحصل من أعمالهم ،كيف يكون مصيرهم في الدنيا ،في ما يقاسونه من البلاء ،وكيف يكون مصيرهم في الآخرة ،في ما يحلّ بهم من العذاب ،ليرتدعوا بذلك عن الامتداد في خط الكفر والضلال ،فإن الكثير من الناس لا يفهمون القضايا بلغة الفكر التحليلي القائم على الحجة والبرهان ،لأنهم لا يعيشون الحقيقة في نطاق المسؤولية ،بل يفهمونها بلغة الوعيد والتهديد ،مما يجعل من أسلوب الإنذار سبيلاً يدعوهم إلى التفكير بجدّية في ذلك كله على أساس ما يتمخض عنه من نتائج قاسية ،لا يملكون القوة على مواجهتها وتحمل آثارها .
{وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} الذين قد ينطلقون في خط الضلال ،من جهة الغفلة التي تنسيهم الله ،فتبعدهم عن وعي المسؤولية في عذابه وعقابه ،فإذا جاءتهم آيات الله في كتابه ،أصغوا إليها بمسامع قلوبهم ،وفتحوا لها أرواحهم ،وتذكّروامن خلالهاكل ما يتعلق بمواقع هذه القضايا من دنياهم وآخرتهم ،فيؤمنون بالدين كله ،ويستزيدون من الإيمان في تفاصيله الفكرية والروحية والعملية ...وربما كان اختصاص الذكرى بالمؤمنين ،منطلقاً من أنّ هؤلاء هم الذين ينفتحون على الحقيقة ،ويعيشونها هاجساً دائماً في أفكارهم ومشاعرهم ،ويواجهونها في حالةٍ عميقةٍ من الإصغاء الواعي ،والصفاء الروحي الهادىء ...فتختزن قلوبهم وأحاسيسهم كل المعاني الحيّة والكلمات الصادقة ،أمّا الآخرون الذين لا يعيشون هذا الهاجس ،بل يمتدون في غفلتهم ولهوهم ولعبهم ،ويتحركون من خلال شهواتهم ،فإنهم يعيشون الظلمة المطبقة والغفلة الساذجة ،والشعور الغبي الذي يعكس بلاهة الشخصية وسذاجة الروح .