{تَذَكَّرُونَ}: تتعظون .
{اتَّبِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ} ويتحوّل الخطاب ،من خلال ما اختزنته الآية الأولى في مدلولها من خطاب الله للمؤمنين من خلال الرسول ،لينتقل إلى مخاطبة المؤمنين مباشرة ،بعد أن خاطبهم من خلال الرسول ...فهم مدعوّون إلى اتباع ما أنزل إليهم من ربهم ،لأن فيه الحقيقة والوضوح والنجاح ...وكيف لا يكون كذلك ،وقد أنزله ربّهم الذي عاشت حياتهم برحمته ،وامتدّت بلطفه ،وتنوّعت بنعمه ،وأراد لهم أن يتحركوا من خلال وحيه وشريعته ،لينعموا بالسعادة في الدنيا والفلاح في الآخرة ،فإنه لا يريد لهم إلا خيراً ؛وكيف لا يريد لهم ذلك ،وهو الغنيّ عنهم في ملكه وسلطانه ،الرحيم بهم في لطفه وإحسانه ،اللطيف بهم بعفوه ورضوانه ...وهل يريد الخالق بمخلوقاته إلا الخير في جميع ما يأمرهم به وينهاهم عنه ؟!وهل يمكن أن يريد لهم الشر ،وهو الذي أراد أن يخلصهم منه ،تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً .
{وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ} بحيث تطيعونهم في ما يأمرونكم به ،وفي ما ينهونكم عنه ،مما لا يتفق مع أمر الله ونهيه ،لأن الله هو الذي يجب أن يتبع ،فهو الذي يعرف ما يصلحكم وما يفسدكم ،وهو الوليّ الذي يرعى عباده وينصرهم ويرحمهم ،لا وليّ غيره ،لأن الأمر كله إليه ،فكيف تتخذون من دونه أولياء ،وهم لا يملكون لأنفسهم ولا لكم ضراً ولا نفعاً ،إلا بإذن الله ؛فلا تتبعوهم في ما يخططون ويستهدفون ،وفي ما يدعون إليه من وسائل وأساليب ،فذلك هو خط التوحيد الخالص ،وهو خط الدعوة إلى الله في طريق الله ،لأن التوحيد ليس فقط معادلة عقلية عن الوحدانية في العقيدة في ما يتحرك فيه الفكر ،بل هو بالإضافة إلى ذلك وحدانية في العبادة والاتّباع ،والشرك على العكس من ذلك .فإذا أخذتم من خطط هؤلاء وشريعتهم في الحياة ،واعتنقتم فكرهم ،واتبعتم عاداتهم وتقاليدهم الكافرة ،وجعلتم كل ذلك جزءاً من حياتكم ...فإنكم بذلك تعيشون الابتعاد عن خط التوحيد والاقتراب من خط الشرك ،ولو بطريقةٍ غير مباشرةٍ ،لأنكم تستلهمون غير الله في خط حياتكم .وتلك قصة تحتاج إلى مزيدٍ من الفكر والجهد والمعاناة والصبر من أجل تحويل خطّ الفكر إلى خطٍّ للعمل وللحياة .
{قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} ...ولكن الناس يستسلمون لواقعهم ،ويستصعبون أن يخرجوا منه أو يتغيروا عن أفكاره وعاداته ،لأنهم يشعرون بالغربة والضياع بدونه ،ويثيرون التفكير بالاهتزاز في مستقبل حياتهم إذا ابتعدوا عنه ،تماماً كما هو الحائر الضائع الذي لا يعرف كيف يدبر أمره بعيداً عن طريقة تربيته وأسلوب حياته المألوف .وتلك هي مشكلة الأكثرية من الناس الذين لا يتذكرون إلاّ قليلاً ،لسيطرة الأمر الواقع عليهم ،واعتبارهم أن عملية التغيير سوف تلاحق فيهم هدوء حياتهم وتتحدى حبهم للكسل والاسترخاء والراحة والأمن ،ولهذا فإنهم يخلقون لأنفسهم الكثير من المبررات والأعذار في هروبهم من حركة الصراع في الساحة ،فيمتد ذلك إلى داخل شخصيتهم ،فيحجب عنها الرؤية بضباب كثيف يوحي بالغفلة تارةً ،وبالاستغفال أخرى ...وربما كان هذا واقع الكثيرين الذين يسترخون للحياة وما تقدمه من جاهٍ وأمن وراحة وشهوة وطمع ،فيستريحون لذلك ويأبون على أنفسهم أن يتذكروا بعض الأشياء التي تبعدهم عن ذلك ،بل ربما يهربون من التفكير عندما تلاحقهم الحقيقة في بعض السبل التي تمر بهم في الحياة ،فيستغفلون أنفسهم ليوحوا للاخرين بأن يجدوا لهم العذر الذي لا يجدونه لأنفسهم .