/م163
{ فلما نسوا ما ذكّروا به} أي فلما نسي العادون المذنبون ، ما ذكرهم ووعظهم به إخوانهم المتقون ، بأن تركوه وأعرضوا عنه حتى صار كالمنسي في كونه لا تأثير له{ أنجينا الذين ينهون عن السوء} أي عن العمل الذي تسوء عاقبته أي أنجيناهم من العقاب الذي استحقه فاعلو السوء بظلمهم{ وأخذنا الذين ظلموا} وحدهم{ بعذاب بئيس} أي شديد البأس وهو الشدة ، أو البؤس وهو المكروه أو الفقر{ بما كانوا يفسقون} أي بسبب فسقهم المستمر ، لا بظلمهم في الاعتداء في السبت فقط .وذلك أن وصفهم بأنهم ظلموا تعليل لأخذهم بعذاب بئيس ، على قاعدة كون بناء الحكم أو الجزاء على المشتق يدل على أن المشتق منه علة له .
ولكن الله تعالى لا يؤاخذ كل ظالم في الدنيا بكل ظلم يقع منه ولو كان قليلا في الصفة أو العدد- وإن شئت قلت في الكيف أو الكم- بدليل قوله:{ ولو يؤاخذ اللّه الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابّة} [ فاطر:45] وقوله:{ ويعفو عن كثير} [ المائدة:15] وإنما يؤاخذ الأمم والشعوب في الدنيا قبل الآخرة بالظلم والذنوب التي يظهر أثرها فيها بالإصرار والاستمرار عليها ، وهو ما أفاده هنا في هؤلاء اليهود قوله تعالى:{ بما كانوا يفسقون} وإنما يكون العقاب على بعض الذنوب دون بعض في الدنيا خاصا بالأفراد أو الجماعات الصغيرة من المذنبين كأهل هذه القرية الذين كانوا بعض أهل قرية من أمة كبيرة ، وأما الأمم الكبيرة فهي التي تصدق عليها سنن الله في عقاب الأمم إذا غلب عليهم الفسق والظلم كقوله تعالى:{ واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} [ الأنفال:25] إلا أن يقال إن الفاسقين من أهل تلك القرية كانوا أقل من الفريقين الآخرين .وقد عاقب الله بني إسرائيل كافة بتنكيل البابليين ثم النصارى بهم وسلبهم ملكهم ، عندما عم فسقهم ، ولم يدفع ذلك عنهم وجود بعض الصالحين فيهم ، إذ لم يكونوا يخلون منهم .
والآية ناطقة بهلاك الظالمين الفاسقين ، ونجاة الصالحين الذين نهوهم عن عمل السوء وارتكاب المنكر ، وسكتت عن الفرقة التي أنكرت على الواعظين وعظهم وإنكارهم ، فقيل:إنها لم تنج ، لأنها لم تنه عن المنكر بل أنكرت على الذين نهوا ، وقيل:بل نجت ، لأنها كانت منكرة للمنكر مستقبحة له ، ولذلك لم تفعله ، وإنما لم تنه عنه ليأسها من فائدة النهي ، وجزمها بأن القوم قد استحقوا عقاب الله بإصرارهم فلا يفيدهم الوعظ ، وروي هذا عن ابن عباس كما روي عنه أنه كان مترددا في هذه الفرقة حتى أقنعه تلميذه عكرمة بنجاتها .وقد رجح الزمخشري وغيره هذا قال:
فإن قلت:الأمة الذين قالوا:لم تعظون ؟ من أي الفريقين هم ؟ أمن فريق الناجين أم المعذبين قلت:من فريق الناجين ، لأنهم من فريق الناهين ، وما قالوا ما قالوا إلا سائلين عن علة الوعظ والغرض فيه ، حيث لم يروا فيه غرضا صحيحا لعلمهم بحال القوم ، وإذا علم الناهي حال المنهي وأن النهي لا يؤثر فيه ، سقط عنه النهي ، وربما وجب الترك لدخوله في باب العبث .ألا ترى أنك لو ذهبت إلى المكاسين القاعدين على المآصر ، والجلادين المرتبين للتعذيب ، لتعظهم وتكفهم عما هم فيه ، كان ذلك عبثا منك ، ولم يكن إلا سببا للتلهي بك .وأما الآخرون فإنما لم يعرضوا عنه إما لأن يأسهم لم يستحكم كما استحكم يأس الأولين ، ولم يخبروهم كما خبروهم ، أو لفرط حصرهم ، وجدّهم في أمرهم ، كما وصف الله تعالى رسوله عليه الصلاة والسلام في قوله:{ فلعلك باخع نفسك} [ الكهف:6] اه .
أقول:إن ما ذكره من سقوط النهي عن المنكر أو وجوب تركه في حالة اليأس من تأثيره مرجوح ولاسيما إذا أخذ على إطلاقه ، وإنما هو شأن أضعف الإيمان في حديث ( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان ){[1309]} رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وإنما تكون هذه الحالة أضعف الإيمان عند عدم استطاعة ما قبلها ، فإن استطاع النهي وسكت عنه لم يكن له عذر مطلقا ، ولذلك اختلف في هؤلاء الساكتين .المحتملة حالهم للعذر وعدمه ، واليأس قلما ينشأ إلا من ضعف في النفس أو الإيمان ، وكأين من مكاس وجلاد ومدمن خمر تاب وأناب ، والمحققون لم يجعلوا احتمال الأذى ولا يقينه موجبا لترك النهي عن المنكر ولا لتفضيله على الفعل بل قالوا في هذه الحالة بالجواز ، واستدلوا على تفضيل النهي بحديث ( أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر ){[1310]} رواه أحمد والنسائي وابن ماجه وغيرهم .
وفي ( بئيس ) عدة قراءات بين متواترة وشاذة ، تتخرج على الخلاف في أصل صيغته ، وعلى لغات العرب في التصرف في المهموز:فقرأها أبو بكر على خلاف عنه ( بيئس ) بوزن ضيغم- وابن عامر بكسر الباء وسكون الهمزة بناء على أنه أصله بئس بوزن حذر فنقلت حركة الهمزة إلى الفاء للتخفيف ككبد في كبد ، ونافع ( بيس ) على قلب الهمزة ياء كذئب وذيب ، أو على أنه فعل الذم وصف به فجعل اسما .ومن الشواذ بيّس كريس على قلب الهمزة ياء وإدغامها ، وبيس كهين على تخفيف المشددة ، وبائس بوزن فاعل .