وأما المثل الثاني فقوله:{ أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذريته ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت} .
المفردات:ود الشيء أحبه مع تمنيه .والأعناب جمع عنب وهو ثمر الكرم الطري واحدته عنبة .والنخيل جمع نخل أو اسم جمع وهو شجر التمر يذكر ويؤنث وواحدته نخلة .والقرآن يذكر الكرم بثمره والنخل بشجره لا بثمره .وقالوا في تعليل ذلك:إن كل شيء في النخيل نافع للناس في ارتفاقهم:ورقه وجذوعه وأليافه وعثاكيلة ، فمنه يتخذون القفف والزنابيل والحبال والعروش والسقوف وغير ذلك .والإعصار ريح عاصفة تستدير في الأرض ثم تنكس عنها إلى السماء حاملة للغبار فتكون كهيئة العمود .جمعه أعاصر وأعاصير .والمراد بالنار السموم الشديد أو البرد الشديد روايتان عن السلف ذكرهما ابن جرير بأسانيده .وهو دليل على أن النار تطلق على كل ما يحرق الشيء ولو بتخفيف رطوبته ، والصر أي البرد الشديد كالحر الشديد في ذلك كلاهما يحرق الشجر والنبات .
التفسير:الاستفهام لإنكار وقوع أن يود الإنسان لو تكون له جنة معظم شجرها الكرم والنخل اللذان هما أجمل الشجر وأنفعه ، كثيرة المياه حاوية لأنواع من الثمرات الكثيرة قد نيطت بها آماله ، ورجا أن ينتفع بها عياله ، ويصيبه الكبر الذي يقعده عن الكسب في حال كثرة ذريته وضعفهم عن أن يقوموا بشأنه وشأنهم حتى لا يبقى له ولا لهم مورد للرزق غير هذه الجنة ، وبينا هو كذلك إذا بالجنة قد أصابها الإعصار ، فأحرقها بما فيه من سموم النار .
وقد اختلف في تفسير"له فيها من كل الثمرات "مع كون الجنة من نخيل وأعناب فقال بعضهم إن المراد بالثمرات هنا المنافع أي هو متمتع بجميع فوائدها .وقيل المعنى له فيها رزق من كل الثمرات على حد{ وما منا إلا له مقام معلوم} [ الصافات:164] أي ما منا أحد إلا له الخ وقيل إن"من "بمعنى بعض وهي مبتدأ وقال الأستاذ الإمام ما معناه:إذا التفتنا عن قواعد النحو الوضعية ، ولم نلتزم تعليلاتها وتدقيقاتها الفلسفية ، وكسرنا قيود سيبويه والخليل ، أمكننا أن نفهم العبارة من غير تقدير ولا تأويل ، فإن العربي الصريح ، الذي طبع على القول الفصيح ، لا يفهم من قولك عندي من كل شيء ، أو لي في بستاني من كل ثمر إلا أنك تريد أن لك حظا من كل شيء وسهما من كل ثمر لا يحتاج في ذلك إلى تقدير قول محذوف ، ونظم غير مألوف ، وهذا الصواب ، فطبق عليه ولا تطبقه على قواعد الإعراب .
أما وجه التمثيل فقد خصوه بالمرائي وقالوا:إن المعنى أنه سيكون في يوم القيامة عند شدة الحاجة إلى ثواب نفقته التي راءى بها كذلك الشيخ الكبير الذي احترقت جنته التي لا معاش له سواها عندما كثر عياله الضعفاء وعجز عن العمل فلا يملك من ثوابها شيئا ولا يقدر أن يكسب ما يغنيه عنه .وأقول:إن المثل ينطبق أيضا على من أبطل صدقته بالمن والأذى وأنه ليس خاصا بالآخرة فإن باذل المال للفقراء وفي المصالح العامة يكون له من الجاه والمكانة عند الناس ما يشبه تلك الجنة التي وصفها المثل في رونقها ومنافعها ، ويوشك أن يذهب مال هذا المنفق وتشتد حاجته وتقصر يده حتى لا يكون له مرتزق إلا ما غرسته يده من جنته تلك ، فيحاول أن يجني منها فيحول دون ذلك إعصار من المن والأذى أو من ظهور الرياء فيحرقها حتى تكون كالصريم لا تؤتي ثمرها ، ولا تسر رؤيتها ، كذلك تكون عاقبة أهل الرياء وذوي المن والإيذاء ينبذهم الناس ، عند شد حاجتهم إلى الناس ، ولذلك أرشدنا تعالى بعد المثل ، إلى التفكير في عاقبة هذا العمل ، فقال:{ كذلك يبين الله لكم الآيات} أي إنه تعالى يبين لكم الآيات الدالة على حقائق الأمور وغاياتها وفوائدها وغوائلها مثل هذا البيان في أبهى معارض التمثيل{ لعلكم تتفكرون} في العواقب فتضعون نفقاتكم في المواضع التي يرضاها مع الإخلاص وقصد تثبيت النفس حتى لا يستخفها الطيش والإعجاب ، فيدفعها إلى المن والأذى .ثم قال تعالى: