وينطلق القرآن ليعلّل ذلك بأنه من خدع الشيطان وأضاليله التي يسوِّل فيها للإنسان بالبخل حذراً من الفقر الذي يعده به إذا أنفق ما عنده من طيبات الرزق في ما اكتسبه الإنسان وفي ما زرعه .
{الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} لأنه يربطكم بالمال الموجود لديكم لتستغرقوا فيه كما لو كان هو الضمان الأول والأخير لقضاء حاجاتكم ،فإذا ذهب بالعطاء ،افتقرتم وفقدتم قدرتكم على الحصول على غيره ،لتنظروا إليه نظرة ذاتية من الزاوية الضيقة المادية ،بعيداً عن الواقع الحركي العام في حركة الإنسان في الفرص المتنوعة المطروحة أمامه ،بحيث إذا ضاقت به فرصة ،كانت هناك أكثر من فرصة مما يتسع لحاجاته في انتظاره ،فليس ذهاب المال في مرحلة ،نذير فقر دائم ،كما أن الحصول عليه في مرحلة لا يعني الغنى الدائم .
{وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَآءِ} لأنه يخطط للانحراف الفكري الكلي الذي تتفرع عنه كل الانحرافات الجزئية ،فإذا انطلق الإنسان من فكرة تجاوز حدود الله وخروجه عن خط التوازن الذي قرره له في سلوكه العملي ،ابتعد عن الاستقامة في حياته ،وانفتحت له أبواب الضلال ،فامتنع عن الإنفاق من قاعدة البخل الذاتي في علاقته بالمال وبالناس ،وتحرك نحو الفحشاء الأخلاقية .فباع نفسه وعرضه بالمال ،وكفّ عن التحرك بالخير في حياته العامة والخاصة ،فإن الشيطان إذا امتد في أوامره في وجدان الإنسان ،فإنه يحوّل حياته إلى سلبيات متلاحقة يتبع بعضها بعضاً ،ويرتبط أحدها بالآخر ،فيأخذه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ...ولكن الآية تثير أمامه إيمانه بالله ،وتذكره بوعد الله للإنسان بالمغفرة للذنب ،وبالفضل والتعويض في الدنيا والآخرة .
{وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً} من رزقه ،فإن الله هو الذي يرزقكم من حيث تحتسبون ومن حيث لا تحتسبون ويعوّض عليكم من واسع فضله أضعاف ما أنفقتموه ،وهو الذي بيده خزائن السماوات والأرض .هذا بالإضافة إلى أن الإنفاق هو الحسنة التي يغفر الله ذنوب العاملين بها ،وبهذا يحصل لهم العفو عن ذنوبهم والزيادة في أموالهم ،ولذلك ،ينبغي للمنفق أن لا يستريح للشيطان في ما يأمره به من إنفاق الخبيث وترك الطيّب ،وفي ما يوحي إليه من الشح والبخل ،ثم يذكر له أن الله غنيٌ عن الإنسان في ما يأمره وفي ما ينهاه ،فإن المصلحة في ذلك له من دون أن يزيد في ملكه شيئاً مهما قلّ .
{وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} فالله واسع الفضل والملك ،فلا يضيق عليه أيُّ رزق أو عوض مما يمنحه لعبده من الخيرات جزاءً لعمله الخيّر ،عليم بكل ما تكنّه صدورهم وما يقومون به من عمل في طاعة الله أو في معصيته ...
وجاء في الدر المنثور: أخرج الترمذي وحسنه والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود قال: قال رسول الله( ص ): إن للشيطان لمّة بابن آدم وللملك لمة: فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشرّ وتكذيب بالحق ،وأمّا لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق ،فمن وجد ذلك ،فليعلم أنه من الله فليحمد الله ،ومن وجد الأخرى فليتعوّذ بالله من الشيطان ،ثم قرأ:{الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَآءِ} .
وقد جاء في حديث الصدوق بسنده إلى أبي عبد الرحمن قال: قلت لأبي عبد الله جعفر الصادق( ع ): إني ربما حزنت ،فلا أعرف في أهل ولا مال ولا ولد ،وربما فرحت ،فلا أعرف في أهل ولا مال ولا ولد ،فقال: إنه ليس من أحد إلا ومعه ملك وشيطان ،فإذا كان فرحه كان دنوّ الملك منه ،وإذا كان حزنه كان دنوّ الشيطان منه ،وذلك قول الله: تبارك وتعالى:{الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَآءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَسِعٌ عَلِيمٌ} .
وفي تفسير العياشي عن هارون بن خارجة عن أبي عبدالله( ع ) قال: قلت له: إني أفرح من غير فرح أراه في نفسي ولا في مالي ولا في صديقي ،وأحزن من غير حزن أراه في نفسي ولا في مالي ولا في صديقي ،قال: نعم ،إن الشيطان يلمّ بالقلب فيقول: لو كان ذلك عند الله خيراً ،ما أوال عليك عدوك ولا جعل بك إليه حاجة ،هل تنتظر إلاّ مثل الذي انتظر الذين من قبلك ؟فهل قالوا شيئاً ،فذاك الذي يحزن من غير حزن ،وأمّا الفرح ،فإن الملك يلمّ بالقلب فيقول: إن كان الله أوال عليك عدوّك وجعل بك إليه حاجة ،فإنما هي لأيام قلائل ،أبشر بمغفرة من الله وفضل ،وهو قول الله{الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَآءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً} .