{ الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم * يؤتي الحكمة من يشاء ومن يُؤتَ الحكمةَ فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولوا الألباب*}
فقوله تعالى:{ الشيطان يعدكم الفقر} معناه أنه يخيل إليكم بوسوسته أن الإنفاق يذهب بالمال ، ويفضي إلى سوء الحال ، فلابد من إمساكه والحرص عليه استعدادا لما يولده الزمن من الحاجات وهذا هو معنى قوله تعالى:{ ويأمركم بالفحشاء} فإن الأمر هنا عبارة عما تولده الوسوسة من الإغراء .والفحشاء والبخل وهي في الأصل كل ما فحش أي اشتد قبحه وكان البخل عند العرب من أفحش الفحش قال طرفة:
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفى *** عقيلة مال الفاحش المتشدد{[257]}
{ والله يعدكم} بما أنزله من الوحي وبما أودعه في النفوس الزكية من الإلهام الصحيح ، والعقل الرجيح ، وفي الفطر السليمة من حب الخير ، والرغبة في البر{ مغفرة منه وفضلا} فإنه جعل الإنفاق كفارة لكثير من الخطايا وسببا يفضل به المرء قومه ويسودهم أو يسود فيهم بما يجذب إليه من قلوب من يكون سببا في رزقهم وهذا الفضل من الجاه بالحق هكذا قال الأستاذ الإمام .والمأثور عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الفضل هو ما يخلفه الله تعالى على المنفق من الرزق .ويؤيده قوله تعالى:{ وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرزاقين} [ سبأ:39] وفي حديث الصحيحين"ما من يوم يصبح فيه العباد إلا لكان ينزلان يقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا "{[258]} أي تلف لماله بأن يذهب حيث لا يفيده .
ومعنى هذا الدعاء عندي:أن من سنة الله أن يخلف على المنفق بما يسهل له من أسباب الرزق ويرفع من شأنه في القلوب ، وأن يحرم البخيل من مثل ذلك .وعلى هذا يكون وعد الله تعالى بشيئين أحدهما لخير الآخرة وهي المغفرة والثاني لخير الدنيا وهو الخلف الذي يعطيه .وأقول إن من هذا الخلف الرزق المعنوي وهو الجاه الذي هو عبارة عن ملك القلوب فيدخل فيه ما قاله الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى .
{ والله واسع عليم} فهو إذا وعد أنجز لسعة فضله .ثم إنه يعلم أين يضع مغفرته وفضله .بمثل هذا يفسرون هذه الأسماء في هذه المواضع .وأقول إن اسم"عليم "يفيد هنا أنه سبحانه يعلم غيب العبد ومستقبله .والشيطان لا يعلم ذلك فوعده تغرير ، لا يعبأ به العاقل النحرير .
ومن مباحث اللفظ في الآية:استعمال الوعد في الخير والشر وهو شائع لغة ، ثم جرى عرف الناس أن يخصوا الوعد بالخير والإيعاد بالشر .فإذا ذكروا الوعد مع الشر أرادوا به التهكم .على أن ما يعد به الشيطان من الفقر هو على تقدير الإنفاق .ويلزمه الوعد بالغنى مع البخل الذي يأمر به .