[ الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء] في هذه الجملة يبين سبحانه وتعالى بواعث الشر كامنة في نفس الإنسان ، فالشيطان يجري في عروقه مجرى الدم ، وهو يوسوس للإنسان بالشر ، فإذا تقدم لينفق في سبيل الله ، وإعلاء شأن الحق ، أو سد حاجة المعوزين من الفقراء والمساكين وأبناء السبيل ، وسوس إليه بأن ذلك سبيل نفاذ المال ، وأنه إذا ذهب ماله ، ضاع وهانت حاله ، ويوسوس له بذلك ، فيحجم بعد إقدام ، وإن أقدم فليعط قليلا من المال ، أو ليتخير الحشف{[390]}من ماله . هذه وسوسة الشيطان ، وهذا مغزى قوله تعالى:[ الشيطان يعدكم الفقر] أي يوعدكم إذا أنفقتم بالفقر ، ويحذركم من الصدقة بما يوسوس بذلك في أنفسكم ؛ وفي هذا الكلام عبر سبحانه عن التهديد بوعد ، وهو المشهور في لغة القرآن ، وقد تستعمل أوعد في الشر والخير معا ، وإن كل بخيل تحدثه نفسه بخوف الفقر عند الإنفاق ، وهذا الحديث هو حديث الشيطان ، ولذا قيل:الناس من خوف الفقر في فقر . [ ويأمركم بالفحشاء] أي يغري نفس المؤمن بالفحشاء ، ويستمر في إغرائها حتى تطيعه وتخضع خضوع المأمور للآمر . والفحشاء قال بعض العلماء:إن المراد بها المعاصي التي تردي النفس الإنسانية ، من مثل الزنا والسرقة وشرب الخمر ، واقترانها بالوعد من الشيطان بالفقر ، ليدفع الإنسان تلك الوسوسة عن نفسه ، وبذلك يشير المولى الحكيم إلى أن وسوسة الشيطان للإنسان بتخويفه بالفقر هي من قبيل وسوسته بالفحشاء والمعاصي المنكرة القبيحة ، وإن الممتنع عن الإنفاق في موطنه كمن يرتكب أفحش الفواحش ، وينتهك الحرمات ؛ لأن امتناعه عن العطاء وقت لزومه يؤدي إلى انتهاك الحرمات ، وارتكاب المعاصي ، إذ ينقلب الفقير هادما مخربا ، فترتكب أبلغ المحرمات إيغالا في الشر ، وقد يكون في ترك الإنفاق تعريض البلاد للخراب وللدمار ، وفي ذلك نشر للفساد ، وتعريض البلاد لأن تنتهك فيها الحرمات ، وترتكب فيها أشنع الموبقات ، وهل بعد الذلة خير يرتجى وشر يدفع ؟
هذا قول بعض العلماء في معنى الفحشاء هنا وتوجيهه ، وهو تفسير للكلمة بمعناها الشائع في استعمال القرآن الكريم ، وقد فسر الزمخشري هنا الفحشاء بالبخل الشديد ، فإن كلمة الفاحش تطلق في لغة العرب على البخيل الشديد البخل ، ومن ذلك قول طرفة بن العبد:
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي *** عقيلة مال الفاحش المتشدد{[391]}
فالفاحش هنا المراد به البخيل .
و يكون توجيه الكلام على هذا المعنى ، أن الشيطان يوسوس في نفس الغني ، يخوفه بالفقر ، حتى إذا استمكن من نفسه وسيطر عليها في هذا وجهه إلى طريق البخل الشديد فاتجه وأطاعه كما يطيع المأمور الآمر ، ويصير سيقة في يده يسوقه حيث يشاء .
ولقد قال صلى الله عليه وسلم:"إن للشيطان لمة بابن آدم ، وللملك لمة ، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق ، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق ، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله ، ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان الرجيم . ثم قرأ:[ الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء] الآية{[392]} .
هذه وسوسة الشيطان ، وتلك خاطرة النفس الملكية ، وقد ذكر سبحانه أمره في مقابل وسوسة الشيطان فقال:[ والله يعدكم مغفرة منه وفضلا] .
صدر سبحانه القول بلفظ الجلالة للإشارة إلى أن الوعد الذي وعد به المنفقين وعد حق ، لا يمكن أن يجيء الشك في صدقه ؛ لأنه وعد الله ذي الجلال والإكرام المعبود بحق ، الذي لا يستحق العبادة سواه سبحانه وتعالى عن الشريك والمثيل ، وإذا كان الشيطان يهدد بالفقر عند العطاء ، فالمولى تعالت حكمته يعد المنفقين بأمرين:أولهما المغفرة ، وثانيهما الفضل ، وهو الزيادة في الدنيا والآخرة .
فأما المغفرة ، فلأن الصدقة التي يقصد بها وجه الله تعالى لا لأحد سواه ، وليس فيها رياء ولا نفاق ، ولم يعقبها منّ ولا أذى ، تدل على نفس صافية خالصة مخلصة ، متجهة إلى الله تعالى منصرفة ، فإن كان منها في ماضيها ما يؤاخذ المرء عليه ، فإن الله تعالى يغفر له ، ويتوب عليه ، ولقد قال تعالى:[ إن الحسنات يذهبن السيئات . . .114] ( هود ) وقال صلى الله عليه وسلم:"الصدقة تطفئ الخطيئة "{[393]} ولأن النفس تكون صافية إذا كانت الصدقة على هذا الوجه ، قال الله تعالى:[ خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها . . .103] ( التوبة ) فالصدقة التي تؤدى ابتغاء وجه الله تعالى تطهر النفس كما تطهر المال ، وتوجه النفس نحو الخير ، كما تنمي المال .
هذه هي المغفرة التي يعد الله سبحانه وتعالى بها ، وأما الفضل وهو النماء والزيادة فإن ذلك يتحقق بالصدقات ؛ لأنها تحدث البركة في الرزق فيكون القليل في يد المتصدق كثيرا بتوفيق الله تعالى ، وبتوجيه من الله تعالى إلى السبل الناجحة ، وإبعاده عما يذهب المال فيه ضياعا ، وأن الفضل يتحقق بسيادة المرء على نفسه ، ومن ساد على نفسه فقد ساد على غيره ، والمنفق يغالب الأهواء فينتصر ، فيشرف في نفسه ، ويشرف أمام الناس ، ثم إن الله سبحانه مخلف الرزق في الدنيا بالتيسير والتسهيل والرزق الوفير ، وفي الآخرة بالنعيم المقيم ، ولقد قال تعالى:[ وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين 39] ( سبأ ) وقد روى البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ما من يوم يصبح فيه العباد إلا ملكان ينزلان يقول أحدهما:اللهم أعط منفقا خلفا ، ويقول الآخر:اللهم أعط ممسكا تلفا "{[394]} وإن ذلك مشاهد محسوس بين الناس اليوم ، فإن الممسك إن لم يتلف ماله تلف جسمه ، فإن لم يتلف جسمه تلفت نفسهأو شرفه ، وتقطعت صلات المودة بينه وبين الناس حتى أقرب الناس إليه .
[ والله واسع عليم] ختم الله سبحانه وتعالى هذه الآية بتلك الجملة السامية تأكيدا لوعده الذي وعد به عباده المتقين المتصدقين ؛ فإنه سبحانه وتعالى قد وعدهم بأن يعطيهم من فضله ، فبين سبحانه وتعالى أنه واسع المغفرة ، واسع الفضل ، يعطي من يشاء ، فإذا كان هو الذي أعطى الغني من فضله ابتداء ، فهو الذي يمده إذا تصدق بفضله أيضا ، وهو مع سعة فضله ومغفرته عليم بموضع المغفرة وموضع الفضل ، وهو الصادق فيما يعد ، يعلم نتيجة العطاء ، وأنها لا تنتج فقرا كما يوسوس الشيطان ، بل يعلم الغيب ، وقد أكنّ في قدره أنها تنتج مغفرة وفضلا ، فصدقوا أيها المنفقون من يعلم الغيب ، ولا تسيروا وراء وسوسة الشيطان الرجيم .