يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولوا الألباب ( 296 )
بعد أن بين سبحانه وتعالى نوازع الشر في نفس الإنسان وإلهام الله له بالخير ، وأن الشيطان يعد بالفقر ويحرض على الفحشاء والبخل ، وأن الله يعد بالمغفرة والفضل ، بعد ذلك بين أن الحكمة في أن يجيب داعي الله ، وأن هذه الحكمة إنما هي من الله سبحانه وتعالى ، وأن من نالها فقد أعطاه الله خيرا كثيرا .
و أصل الحكمة مأخوذ من حكم بمعنى منع ، وهي في الإنسانية صفة نفسية هي أساس المعرفة الصحيحة التي تصيب الحق ، وتوجه الإنسان نحو عمل الخير ، وتمنعه من عمل الشر ، فهي فيه مانعة ضابطة حاكمة للنفس مسيرة لها نحو الكمال . ولقد قال الراغب الأصفهاني في معنى الحكمة:"الحكمة إصابة الحق بالعلم والعقل ، والحكمة من الله تعالى معرفة الأشياء وإيجادها على غاية الإحكام ، ومن الإنسان معرفة الموجودات وفعل الخيرات ، وهذا هو الذي وصف به لقمان في قوله عز وجل:[ ولقد آتينا لقمان الحكمة . . .12] ( لقمان ) ونبه على جملتها بما وصفه بها ". والمعاني التي أشار إليها الراغب هي في قوله تعالى:[. . .أن اشكر لله ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد 12 وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم 13] ( لقمان ) إلى آخر الآيات التي تدل على معرفته للحق وإدراكه له وإيمانه به ، وعمله على منهاج ما علم وإرشاده الناس إلى فعل الخير .
فالحكمة إذن في حقيقتها تتضمن معاني العلم الصائب والإيمان بالحق والإذعان له وطلبه ، والعمل على وفق ما علم ، وإرشاد الناس إلى المنهاج المستقيم ، ولذا قال تعالى:[ ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة . . .125] ( النحل ) وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا حسد إلا في اثنتين:رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق ، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها "{[395]} .
و قد يقول قائل:ما موضع هذه الآية من آيات الصدقات ؟ فنقول:إن الله سبحانه وتعالى أشار إلى أن المنفق عليه أن يستولي على نفسه ، وأن يدفع دواعي الشر ، ويحمي قلبه منها ، وأن يجيب نداء الله تعالى ؛ وفي هذه الآية أن تلك هي الحكمة ، فالحكمة في ضبط النفس ، ومنعها من أهوائها والسيطرة عليها ، وإطاعة الله تعالى .
و من الناس من يحسب الحرص والضن بالمال حكمة ، ويدعي أن ذلك من الاقتصاد ، وأن الإنفاق إسراف ، فأشار سبحانه أن التصدق هو الحكمة ، بذكر آية الحكمة في آيات الصدقة .
و إن الحكمة نور يقذفه الله في قلب المؤمن الذي يطلب الحق ويتجه إليه ويقصده ، فإنه إن استولى على نفسه وطلب مرضاة الله تعالى آتاه الله نورا به يبصر الحق ، فأشرق في قلبه الإيمان به فاندفع إلى العمل الصالح ، إذ إن الاتجاه المستقيم ، بقلب مخلص سليم ، يكون معه نور الحكمة ، إذ يقذف الله سبحانه وتعالى به في قلبه ، فيكون الفكر المستقيم الذي يصيب الحق ، ويكون القلب الذي يؤمن به ، ويكون العمل النافع ؛ ولذا يقول بعض العلماء:إن الحكمة هي العلم النافع الذي يكون معه العمل .
هذا معنى قوله تعالى:[ يؤتي الحكمة من يشاء] فالمعطي للحكمة هو الله ، ولكنه العليم بكل شيء يضع الأمور في مواضعها ، فهو لا يعطيها إلا لمن يخلص قلبه ، ويسلم وجهه ، وإن كان كل شيء بمشيئته سبحانه ، إنه على ما يشاء قدير .
و الحكمة على هذا التوجيه هي علو بالإنسان ، وسمو به ، إذ إنه يخلص نفسه من الأهواء المردية ، ومن الشهوات الجسدية الأرضية . ومن المأثور أن الإنسان فيه طبيعتان:طبيعة أرضية منها ينفذ الشيطان ، وطبيعة ملكية بها سموه ، ومن جانبها تنفذ دعوة الديان ، فإن غلبت عليه طبيعته الأرضية غلبت عليه شقوته وكان شرا من الشيطان ، وإن غلبت عليه الثانية سمت إنسانيته وكان أفضل من الملك ، وتلك هي الحكمة ، ولذا قال تعالى:[ ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا] .
[ وما يذكر إلا أولوا الألباب] أي وما يتذكر ويعتبر بأوامر الله تعالى ، ويستولي على نفسه ويحارب أهواءه حتى يقذف الله في قلبه بنور الحكمة إلا أولوا الألباب ، أي أصحاب العقول التي تصيب الحق وتدركه ، وتتجه إليه غير متأشبة بلذة من لذات الجسد ، أو شهوة من شهوات الدنيا المردية .
فاللب معناه العقل ، ولكنه لا يستعمل في القرآن إلا في العقول المستقيمة المدركة التي تخلصت وسلمت من شوائب الهوى ، ومعايب اللذات فهي العقول المسيطرة التي تستخدم لطلب الحق وتوصل إليه ، لا العقول المسخرة للأهواء واللذائذ تتحكم فيها وتسيرها .
و قد ختم الله سبحانه وتعالى الآية بذلك الختام الحكيم ، للإشارة إلى أن الله سبحانه الذي يعطي حكمته من يشاء لا يعطيها إلا للذين خلصوا قلوبهم من المفاسد والملاذ الأرضية ، ولم يجعلوها حاكمة على قلوبهم ، متحكمة في تفكيرهم .
و للإشارة إلى أن الذين يجيبون داعي الله ، ويردون داعي الشيطان هم ذووالعقول المستقيمة ، فلا يتحكم الشيطان إلا في غفوة من غفوات العقل المدرك ، وللحث على وجوب تذكر الله دائما ، وأن على ذوي العقول أن يتجهوا بعقولهم دائما لله ليتذكروا ويعتبروا ، ويستبصروا ، فإنها لا تعمي الأبصار ، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ، والله سبحانه وتعالى هو القادر على كل شيء الهادي إلى سواء السبيل .