{يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُ} فهو الذي يعطي عباده النعم الباطنة في الوجدان الداخلي للإنسان ،فيلهمه الصواب في الفكرة ،والسداد في الرأي ،والمنهجية في طريقة التفكير ،وفي النظرة إلى الأمور ،وهذا ما تمثله الحكمة في مضمونها الفكري على مستوى المنهج والوسيلة والفكرة ،فيدرس القضايا من خلال سلبياتها وإيجابياتها ومقدماتها ونتائجها والظروف الموضوعية المحيطة بها على مستوى الدنيا والآخرة .
ثم يثير أمام الإنسان طريق الحكمة في الحياة في ما تمثله هذه الكلمة من تنظيم أعمال الإنسان وتخطيط أوضاعه على حسب الموازين الدقيقة للأشياء ،بحيث يضع كل شيء في موضعه ،فلا يمنع شيئاً ينبغي له أن يعطيه ،ولا يعطي شيئاً ينبغي له أن يمنعه ،ولا يضع شيئاً موضع شيء آخر ،ولا يزيد ولا ينقص في ما يراد منه التوازن في جانب الزيادة والنقيصة ...ويؤكد الله على أن الحكمة نعمة كبيرة يمنحها لمن يشاء من عباده ،لأنها تهدي الإنسان إلى التوازن الدقيق في الحياة ،فهي القيمة الكبيرة في شخصيته ،التي تفوق الجاه والمال والجمال ،لأنها هي التي توجه ذلك كله إلى الوجهة التي ينبغي أن تقف عندها الأشياء .
{وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا} لأنها التي تفتح للإنسان أبواب الخير في الدنيا والآخرة ،فتصرفه عن طريق الخطأ وتقربه إلى طريق الصواب{وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُو الأَلْبَابِ} أي العقول ،فلا بد للعاقل من أن يتذكر ذلك كله في ما يقرره ويستوحيه ،لأن العاقل هو الذي تنطلق الذكرى في حياته لتضيء له السبيل ،ولتربطه بالغاية ،وهي رضا الله ومحبته .والتذكر هو حركة العقل في دراسة الأشياء التي تربط بين المقدمات ونتائجها ،أو بين الشيء ونتائجه ،ليحصل الإنسان على الفكرة الجديدة من خلال مفردات المعلومات التي يختزنها في وجدانه ،فتكون الذكرى لوناً من ألوان اليقظة الوجدانية للوعي ،التي توحي له بشيء جديد ،وهذا هو المنهج الذي قرره القرآن الكريم في مسألة الإيمان التي هي حركة تذكر الله في عبادته وطاعته من خلال التذكر لآلائه ونعمه وأسرار مقامه الربوبي وعلاقة الناس به .
وقد جاء في الحديث عن الإمام جعفر الصادق( ع )في رواية سليمان بن خالد عنهقال: سألت أبا عبدالله( ع ) عن قول الله:{وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيراً} فقال: إن الحكمة المعرفة والتفقه في الدين ،فمن فقه منكم فهو حكيم ،وما أحد يموت من المؤمنين أحب إلى إبليس من فقيه .
وجاء عن محمد بن يعقوب الكلينيمرفوعاًقال: قال رسول الله( ص ): ما قسم الله للعباد شيئاً أفضل من العقل ،فنوم العاقل أفضل من سهر الجاهل ،وإقامة العاقل أفضل من شخوص الجاهل ،ولا بعث الله نبياً ولا رسولاً حتى يستكمل العقل ويكون عقله أفضل من جميع عقول أمته ،وما يضمر النبي( ص ) في نفسه أفضل من اجتهاد المجتهدين ،وما أدى العبد فرائض الله حتى عقل عنه ،ولا بلغ جميع العابدين في فضل عبادتهم ما بلغ العاقل والعقلاء ،هم أولو الألباب ،الذين قال الله تبارك وتعالى:{وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُو الأَلْبَابِ} .
وفي هذه الأحاديث نوعٌ من الإيحاء التفصيلي بالجانب الفعلي للحكمة في حركة المعرفة من خلال المفردات العلمية والفقهية والتجارب العملية ،وفي قاعدتها الإنسانية في قيمة العقل في تأثيره في تصورات الإنسان وممارساته ،ما يجعل من الحكمة قوّة في العقل وحركة في المعرفة وانفتاحاً على توازنات الواقع .