[ وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه] النفقة هي العطاء العاجل في باب من أبواب البر ، فهي عطاء منجز ، توجبه حاجة من يعطيه ، أو حاجة الجماعة التي يعيش فيها ، والضرورات الاجتماعية ، أو السياسية أو العسكرية لها . أما النذر فهو التزام طاعة من الطاعات ، أو عطاء في بر . ويقول الراغب:النذر أن توجب على نفسك ما ليس بواجب لحدوث أمر ، يقال نذرت ، قال تعالى:[ إني نذرت للرحمانصوما فلن أكلم اليوم إنسيا 26] ( مريم ) وأصل مادة نذر من الخوف ؛ لأن الإنسان إنما يلتزم على نفسه مما ليس بلازم عليه خوف التقصير وخوف أن تضعف الإرادة البشرية في القيام بذلك الفعل الذي ليس واجبا في أصله . والصيغة المشهورة للنذر أن يقول:لله علي نذر أو نذرت لله كذا ، فهي في معناها تتضمن العهد الموثق لله .
و معنى الجملة السامية:ما أنفقتم من نفقة عاجلة وأديتموها ، أو التزمتم بنفقة قابلة وعاهدتهم الله على القيام بها ، فإن الله تعالى سبحانه وتعالى يعلمه ، فيعلم الباعث عليه أقصد ابتغاء مرضاة الله أم قصد به رئاء الناس ، أو كان من الطيب الذي يقبله الله ، أم تيمم الخبيث فلم يختر لله سواه ، وأتبعه منا وأذى ، وجرحا للكرامة وعزة النفس ، أم كان بطيب النفس ، ومن غير ذل ولا امتهان ، ثم يعلم سبحانه أوفّى الناذر بنذره على الوجه الأكمل أم نكث عهده ، وأبطل ذمته؛ يعلم الله سبحانه وتعالى ذلك كله ، يعلمه علم القادر القائم على كل شيء ، الذي يجازي المحسن إحسانا والمسيء إساءة ، فقوله تعالى:[ فإن الله يعلمه] مع إيجازها أفادت فوائد جمة:أفادت الوعد والوعيد ، أفادت التبشير بالثواب والنعيم المقيم ورضوان الله تعالى ، وأفادت الإنذار بالعقاب ، لمن فسد قلبه ، فلم يقصد بعطائه وجه الله تعالى ، ولم نقض عهده ، وأخل بذمته ، ثم أفادت مع ذلك تربية المهابة في قلب المؤمن ، فإن المؤمن إذا ذكر أن الله تعالى يعلم عمله ، أحس برقابته في خلجات نفسه ، وخصوصا أن الجملة السامية:[ فإن الله يعلمه] صدرت بما يؤكدها . وذكر العليم الحكيم بلفظ الجلالة الدال على الاستحقاق الكامل للألوهية ، وانفراده سبحانه وتعالى بها ، فإن ذلك كله من شأنه أن يجعل المؤمن يحس بمقام الألوهية ، ويشعر بحق العبودية ، فتخلص نيته ، ويخلص قلبه من كل الشوائب والأغراض الدنيوية .
[ وما للظالمين من أنصار]:ختم الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة بهذه الجملة السامية التي تفيد النفي المطلق لنصرة الظالمين ، ومعناها ليس للظالمين أي نصير في الدنيا والآخرة ، وهي تؤكد الوعيد في الجملة السابقة ، وتشير إلى أن الامتناع عن الإعطاء ظلم ، فهو ظلم للجماعة ؛ لأنه منع صاحب الحق من حقه ؛ لأن الله سبحانه وتعالى ، وهو أحكم الحاكمين ، حكم بأن للفقير في مال الغني حقا معلوما ، ولا ظلم أفحش من أن يمنع صاحب الحق من حقه ، ولأن الممتنع عن العطاء يظلم نفسه؛ لأنه يعرضها للهوان في الدنيا ، ولعذاب الله في الآخرة ، وهو يظلم نفسه وجماعته ، إذ إن الجماعة التي يشح فيها الغني بالعطاء لإمداد الجند المدافع ، ولإمداد الفقير وجعله يعيش عيشة آدمية محترمة ، يبتليها الله تعالى ببلاء واقع ما له من دافع ؛ لأن ذلك الفقير إذا جوعته كان أداة هدم للجماعة ، فيكون الشُذَّاب{[396]} الذين يبدلون أمن الجماعة خوفا ، ويكون المنحرفون في تفكيرهم ومنازعهم الدينية يهدمون بناء الجماعة ، ويقوضون كل قائم .
و نفي الأنصار يشمل النفي في الدنيا والآخرة كما قررنا ؛ أما نفيه في الآخرة فمعلوم ظاهر ثابت ، ونفيه في الآخرة يدركه البصير النافذ البصيرة ، فإن البخلاء بأموالهم عن مواطن الخير مبغضون إلى الناس ، لا يرضى عنهم أحد ، ولا يناصرهم أحد بالقول أو العمل ، وأحب الناس إلى الناس الباذل المعطي ، وأبغضهم إليهم الشحيح المانع .
و الآية الكريمة تشير إلى أن الوفاء بالنذر مطلوب في العطاء ، فإنه اقترن بالإنفاق المطلوب الذي حث عليه القرآن الكريم في الآيات السابقة ، فكذلك ما اقترن به .
وإنه من الحق علينا قبل أن ننتقل إلى تفسير الآية الآتية نتكلم في النذر:
إن العلماء يقسمون النذر إلى قسمين:نذر مطلق هو التزام بطاعة غير معلق على زمن ، ولم يكن المقصود منه الحض على فعل أو المنع من فعل ، أو الامتناع عن فعل ، أو توثيق فعل ، كأن يقول القائل:لله علي نذر أن أعتكف في العشر الأخيرة من رمضان ، أو:لله علي نذر أن أتصدق على الفقراء بعشرة جنيهات . فإن النذر في هذه الحال يجب الوفاء به ما دام طاعة باتفاق الفقهاء . ويقسم الفخر الرازي في تفسيره الكبير هذا النذر إلى قسمين:مفسر وغير مفسر ، فالمفسر أن يقول مثلا:لله علي حج ، وهذا يلزم الوفاء به ، وغير المفسر أن يقول:لله علي نذر ، من غير أن يسمي النذر ويبينه فيلزمه فيه كفارة يمين لقوله صلى الله عليه وسلم:"من نذر نذرا وسمى فعليه ما سمى ، ومن نذر نذرا ولم يسم فعليه كفارة يمين "{[397]} .
و هذا مذهب الشافعي ، ويلحق بالنذر غير المفسر في المذهب الشافعي النذر الذي يكون في معناه تحريض على فعل ، أو الامتناع من فعل ، كأن يقول:نذرت لله ألا أفعل كذا ثم يفعله ، فإنه يجب فيه كفارة يمين ؛ لأنه في معنى اليمين .
و لقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من نذر نذرا لم يسمه فكفارته كفارة يمين ، ومن نذر نذرا في معصية فكفارته كفارة يمين ، ومن نذر نذرا لا يطيقه فكفارته كفارة يمين "{[398]} .
هذا إذا كان النذر التزاما مجردا من غير تعليق أو تقييد بمكان ، فقد اتفق الفقهاء على وجوب الوفاء به ما دام قربة ، لقوله صلى الله عليه وسلم:"من نذر أن يطيع الله فليطعه ، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه "{[399]} . ولقوله تعالى:[ وليوفوا نذورهم . . .29] ( الحج ) فهو أمر حتمي لازم .
أما إذا علق النذر على أمر سيقع في المستقبل كأن يقول:إن شفى الله مريضي مما ألم به فلله علي نذر أن أتصدق بمائة جنيه مثلا ، فقد اختلف الفقهاء فيه ، فقال الحنفية فيجب الوفاء بشروط ثلاثة:ألا يكون معصية وألا يكون واجبا ، وأن يكون قربة بحيث يكون من جنسه واجب ؛ فنذر المعصية باطل كما قدمنا ، وكنص الحديث الذي ذكرناه ، ونذر الواجب لا جدوى فيه ؛ لأنه واجب من تلقاء نفسه ، أما نذر القرب التي من جنسها واجبات كالصدقات والصيام والحج فإن الوفاء به واجب ، وهذا هو مذهب المالكية إلا أنه إذا كان النذر بجميع المال وجب الثلث فقط عندهم ، إن لم يكن المال معينا بالتعيين . والشافعي في قول اعتبر النذر المعلق على الشرطكاليمين تجب به كفارة ، كأن يقول:إن شربت الدخان وجب علي كذا صدقة ، فشرب ، فإنه تجب كفارة يمين .
ومذهب الإمام أحمد كما حققه العلامة ابن تيمية أن النذر المعلق على شرط إن قصد به التعليق حقيقة ك:"إن جاء رمضان فلله علي نذر أن اعتكف العشرة الأخيرة منه "، فهذا يجب الوفاء به ، وإن كان المقصود به الحض على فعل أو الامتناع عن فعل ، فإنه لا يجب الوفاء به ولكن تجب كفارة يمين ؛ لأنه حلف تجب فيه كفارة .
و قد اتفق العلماء على عدم وجوب الوفاء في نذر المعصية ، لقوله صلى الله عليه وسلم:"من نذر أن يعصي الله فلا يعصه "{[400]} . وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي:لا يجب شيء ، ولكن قال أحمد:تجب كفارة يمين ، للحديث الذي رواه أبو داود ونقلناه آنفا ، ففيه التصريح بأن نذر المعصية تجب فيه الكفارة ، ولأن منطق الحنابلة أن النذر الذي يكون فيه الحض على فعل أو منع فعل هو من قبيل اليمين ، واليمين في المعاصي حكمها أنه يجب الحنث فيها ، وتجب كفارة اليمين ، لقوله صلى الله عليه وسلم:"من حلف على سيء فرأى خيرا منه فليحنث وليكفر "{[401]} .
هذه كلمة إجمالية في حكم النذر واختلاف أقوال الفقهاء فيه ، ومن المفيد في هذا الموضع أن نتكلم في أمرين:
أحدهما:في نذر القيام بقربة في مكان معين ، كالصدقة عند البيت الحرام ، أو عند المسجد الفلاني .
و ثانيهما:هل النذر في ذاته حسن في الدين أو ليس بحسن ؟ فقد كان الكلام في وجوب الوفاء به . أما الكلام في هذا الموضع فهو في أصله أيكون من المستحسن أن يلتزم الإنسان الطاعة أم يفعلها ولا يقيد نفسه بالتزامها أولا ثم يفعلها ؟ .
أما بالنسبة للأمر الأول ، فقد اتفق الفقهاء على أن الالتزام بقربة في مكان تشد الرحال إليه وله مزيد اختصاص بالفضل في الشرع ، كالمسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم يجب الوفاء به ، فقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على أنه لا تشد الرحال إلا إلى هذه المساجد الثلاثة ، فالنذر بالصلاة فيها أو الصدقة عندها يجب الوفاء به ؛ لأن الصدقة في ذاتها قربة ، والاتجاه إلى الله في هذه الأمكنة بالذات قربة ثانية .
و أما إذا كان المكان الذي نذرت القربة فيه ليس من الأماكن التي تشد الرحال إليها ، فقد قال كثيرون من الفقهاء:تجب القربة من غير تقييد بالمكان ، فمن نذر أن يتصدق عند مسجد الحسين أو غيره فالوفاء واجب من غير تقيد بالمكان .
و قال بعض الفقهاء:يجب الوفاء بهذا المكان الذي عينه ، واستدلوا على ذلك بما روى أبو داود أن ثابت بن الضاحك قال:"نذر رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينحر إبلا ببوانة فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله ، فقال صلى الله عليه وسلم: "أكان فيها وثن يعبد ؟ "قال:لا ، قال:"فهل كان فيها عيد من أعيادهم ؟ "فقال:لا ، فقال:"أوف بنذرك ، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله تعالى ، ولا في قطيعة رحم ، ولا فيما لا يملك ابن آدم "{[402]} .
و بهذا يتبين أن الوفاء بالنذر واجب ما دام غير معصية ، وفي مكان لا معصية فيه ، ولكن هل النذر عند الأضرحة والقبور خال من المعصية ؟ إن ذلك موضع نظر ، والاحتياط في النذور أن تكون لله خالصة .
أما الأمر الثاني ، وهو التزام الطاعات بالنذور المطلقة أو النذور المعلقة على شرط ، أهو أمر مستحب ، أم الأولى خلافه وإن كان يجب الوفاء به إن التزمه ؟ لقد اختلف في ذلك الفقهاء ، فقال فريق كبير منهم:إن الأولى ألا ينذر العبادة ، بل يقوم بها متى قدر عليها من غير نذر ، وذلك لما روي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن النذر ، وقال:"إنه لا يأتي بخير ، وإنما يستخرج الله به من البخيل "{[403]}وإن أكثر النذر في الماضي كما هي في الحاضر تكون لرجاء أمر فتعلق القربة على وجوده ، أو للخوف من نتائج أمر فتعلق القرب على عدمه ، وإن تعليق القربة على ذلك أمر غير مستحسن ، بل هو مكروه ، بل صرح بعض الأئمة بأنه حرام ، ولقد قال ذلك القول كثيرون من فقهاء المذاهب الأربعة ، بل رواه أبو داود عن بعض الصحابة .
و قال آخرون:إن النذر مستحب ؛ لأنه يحمل الشخص على القيام بالقرب ، فهو تقوية للعزيمة على الطاعة ، ولقد صرح النووي في المجموع بأنه مستحب .
و عندي أن النذر غير المعلق على شرط قد يكون مستحبا لما فيه من حمل النفس على الإصرار على الطاعات ، وأما المعلق على شرط ، فهو الذي ينطبق عليه الحديث ، وقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم بأنه لا يأتي بخير لمنع اعتقاد الناس ذلك ، وكثيرون يتوهمون أن النذر يغير القدر ، فنفى النبي صلى الله عليه وسلم صحة اعتقادهم . والله سبحانه هو القادر على كل شيء ، وله عاقبة الأمور .