إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكموالله بما تعملون خبير ( 271 )
في الآيات السابقة حذر الله سبحانه وتعالى المنفقين من أدواء الصدقات التي تفتك بها وتذهب بخيرها ، وهي أعداء الإخلاص الثلاثة:المن ، والأذى والرياء . والمن والأذى عملان حسيان قد يسهل على المؤمن اجتنابهما ، أما الرياء فهو داء نفسي الاحتياط في تجنبه يوجب تفتيش النفس في داخليتها ، ومراقبتها في حركتها ، والتنقيب عن بواعثها ؛ فإن كانت تتصل بالرياء عن قرب أو بعد طهرها وزكاها ، وإن سلمت منه فقد برئت واصعدت إلى سماء التقديس ؛ وإن المؤمن في سبيل هذه المعالجة الروحية عند الإنفاق قد يتردد بين الإعلان ليكون أسوة حسنة للناس ، إذ يعلن حق الله في ماله فيعرف كل ذي مال ذلك ، ولكنه يخشى أن يجد الرياء منفذا إلى نفسه من هذه الناحية ، وإن أخفاها وسترها عن الأعين ، فقد يضل في العطاء ، فيعطي من لا يستحق العطاء ، ولا يكون إعلان تلك الشعيرة المقدسة ، شعيرة الصدقة التي تثير نخوة ذي المال ، فيقتطع من ماله حق الله فيه .
و لقد بين سبحانه أن في الإخفاء خيرا كثيرا ، والجهر محمود إن نقي من كل أعراض الرياء ، فقال تعالى:
[ إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم] هذه الآية الكريمة تفيد أن الصدقات في كل أحوالها خير محض ما دام المنفق قد خلص من الرياء ، وجانب المن والأذى ، وإذا كان ثمة تفاوت فهو في حال النفس ، والاحتياط للرياء ، وسد مداخله ، ولذا قال تعالى مادحا النوعين من الصدقة:صدقة الجهر وصدقة السر:[ إن تبدو الصدقات فنعما] أي إن تظهروا صدقاتكم وتعلنوها بين الناس فنعم تلك الصدقة ، أي أنها أمر محمود ممدوح يوجب الثناء والذكر الحسن ، فقوله تعالى [ فنعما هي] هو نعم المدغمة في ما ، وما هي التي يقول عنها علماء اللغة إنها نكرة تامة بمعنى شيء ، والمعنى نعم شيئا يستحق المدح والثناء تلك الصدقات . وعبر في قوله عن الإنفاق بالصدقات هنا ، للإشارة إلى أن الممدوح من الإنفاق المعلن هو الصدقات التي يقصد فيها الشخص إلى إرضاء الرب ، وتصدق فيها نيته ، ويخلص قلبه ؛ لأن كلمة ( الصدقة ) مأخوذة من الصدق ، والصدق هنا هو صدق النية وتخليصها من كل شوائب الرياء . وإذا كانت الصدقة التي خلصت النية فيها لوجه الله تعالى هي موضع مدح وثناء ، ولا ذم فيها قط ، فهي خير بلا شك . وذكرت خيريته بعبارات المدح والثناء دون التصريح بالخيرية ، للإشارة إلى أنها ممدوحة عند الله كما هي ممدوحة عند الناس ، إذ إن المعلن لصدقته سينال ثناء الناس ، وسيتحدثون بجوده ، فيبين سبحانه أن عمله ممدوح عند الناس أيضا ، وبذلك ينال المتصدق المخلص في نيته ومقصده إن أعلن ، ثواب الله ، وثناء الناس ، وثناء الشرع .
هذه صدقة الجهر إن خلصت من الرياء ، أما صدقة السر فقد أثنى عليها سبحانه بقوله تعالى:[ إن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم] أي إن تخفوا الصدقات التي خلصت فيها النية وتؤتوها الفقراء بأنفسكم فهو خير لكم ؛ لأن العبد عن الرياء يكون أوثق ، إذ في السرية سد لكل ذرائع الرياء ، ولذلك كان السر خيرا للمعطي ، إذ فيه احتياط لنفسه من أن يدخلها داء الإنفاق ، وهو الرياء ، فإذا كان في الجهر فائدة الثناء ، ففي السر فائدة الاحتياط من الرياء ، وذلك خير من كل ثناء . ثم صدقة السر خير في ذاتها كصدقة الجهر ، وفوق ذلك فإن صدقة السر خير للفقير ؛ لأنها تستره بستر الله ، فلا يجتمع عليه ذل الفقر ، وذل الأخذ ، وذل الإعلان والكشف .
و التعبير في نفقة السر بقوله تعالى:[ وتؤتوها الفقراء] فيه إشارة إلى ثلاثة أمور:
أولها:أن الصدقة قسمان:قسم يعطى إلى الحكام ، وهو الصدقات المفروضة التي قدرها الشارع ، فهذه يجمعها أولو الأمر ومن ينوبون عنهم من ولاة وعمال ، أو جماعات يختارونها لذلك ، وهذه تكون معلنة بلا ريب . والقسم الثاني يعطى الفقراء مباشرة وهو الصدقات غير المفروضة ، والصدقات المفروضة غير المقدرة التي تكون على حسب حال الشخص ، كمن يرى شخصا في مخمصة وجوع ، ويخشى عليه من الموت فإن الصدقة تكون فرضا على من يعلم حاله ، وهذه الصدقات التي تعطى الفقراء مباشرة يكون السر فيها أولى ، بل أكاد أقول إنه يكون لازما ؛ لأن الإعلان أذى ، وقد قرر المولى العلي القدير أن الأذى يبطل الصدقة في قوله تعالى:[ يأيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى . . . 264] ( البقرة ) .
الأمر الثاني الذي يفيده التعبير بقوله تعالى:[ وتؤتوها الفقراء]:الإشارة إلى وجوب تحري صفة الفقر فيمن يعطى ، فلا يعطي إلا ذا حاجة ، ولا يكون من الصدقات ما يعطى لغير الفقراء ؛ لأنه يكون مروءة أوجودا ولا يكون صدقة يبتغي بها ما عند الله ، إذ يبتغي بها ما عند الناس ، وإن ذلك وإن كان من نظام الدنيا ليس من الصدقة في شيء .
الأمر الثالث:أن الإعطاء في هذه الصدقات بوصف الفقر ، لا فرق في ذلك بين مسلم وغير مسلم ، ولا بر ولا فاجر ؛ فإذا كان غير المسلم في حال مخمصة ولا يعلم حاله إلا مسلم فرض عليه أن يدفع عنه مخمصته ؛ فإن ذلك من الرحمة المفروضة لكل إنسان ، ولذا ورد في صحيح البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"في كل كبد رطبة أجر "{[404]} وفي رواية لغيرهما "في كل كبد حرّى أجر "{[405]}فهذا يدل على أن الرحمة بكل الأحياء فيها أجر ، فكيف بالرحمة بالإنسان .
بعد بيان أن صدقة السر فيها خير وصدقة الجهر موضع ثناء ومدح ، قال سبحانه:[ ويكفر عنكم من سيئاتكم] أي أنه سبحانه وتعالى يستر السيئات التي يرتكبها الشخص ، ويخفيها ولا يظهرها عند الثواب والجزاء ، فلا يحاسب عليها أصحابها إذا تصدقوا وأعطوا مبتغين وجه الله تعالى في صدقاتهم . و"من "في قوله تعالى:[ من سيئاتكم] إما أن تكون "من "البيانية ، والمعنى أن الصدقات تكفر السيئات ، وإما أن تكون "من "الدالة على البعضية ، أي أن الله سبحانه وتعالى يكفر للمتصدقين من الخطايا بمقدار ما يتصدقون من صدقات ، وينفقون ابتغاء وجه الله تعالى . وعندي أن "من "بيانية؛ لأن النفس التي تفيض خيراتها وتتجه إلى الله تعالى في صدقاتها لا تبغي إلا مرضاته ، فلا تبغي رياء ولا نفاقا ، ولا جاها في الدنيا ، نفس برة تقية لم تحط بها خطيئاتها ، والنفس التي تكون على هذا النحو لا تسيطر عليها المعاصي ، فيكون غفران الله تعالى لما كان منها من سيئات في بعض الأحوال .
و قوله:[ ويكفر عنكم من سيئاتكم] قال بعض العلماء:إنه بالنسبة لصدقة السر ، ولذا قال صلى الله عليه وسلم:"صدقة السر تطفئ غضب الرب "{[406]} وقال بعضهم:إن الصدقة بنوعيها تكفر السيئات ، وذلك أوضح من الأول ؛ لأن الصدقة إذا سلمت من الرياء وقدمها الشخص طائعا مختارا ولو بإعلان هي حسنة مقبولة ، والله سبحانه وتعالى يقول:[ إن الحسنات يذهبن السيئات . . .114] ( هود ) ولقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"الصدقة تطفئ المعصية "{[407]}ولأن من الصدقات ما لا يمكن إلا أن تكون معلنة كشراء سيدنا عثمان بن عفان لبئر رومة ووقفها على المسلمين ، فلا يمكن أن تكون تلك الصدقات المعلنة التي يبتغى فيها وجه الله غير مكفرة للسيئات ، وقد أعد عثمان جيش العسرة ، فهل يغض ذلك من صدقته . ولذا نرى أن تكفير الصدقات للسيئات لا يختص بصدقات السر وحدها ، بل يعم الصدقات كلها .
و لقد أثار العلماء بحثا في أيهما أفضل:صدقة السر أم صدقة الجهر ؟ وقبل أن نخوض في أقوال الفقهاء في ذلك نقرر أن الصحابة أثرت عنهم صدقات الجهر ، كما كان معلوما عنهم أنهم يتصدقون ويخفون حتى لا تعلم شمالهم ما تنفق يمينهم .
ومما يروى في صدقاتهم التي كانت معروفة أن عمر رضي الله عنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بنصف ماله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"ما خلفت وراءك لأهلك يا عمر ؟ "قال:خلفت لهم نصف مالي:وفي هذا الوقت جاء أبو بكر بكل ماله ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"ما خلفت وراءك لأهلك يا أبا بكر ؟ "قال:عدة الله وعدة رسوله . فبكى عمر وقال:بأبي أنت وأمي يا أبا بكر ، والله ما استبقنا إلى خير قط إلا كنت أنت سابقا!{[408]} .
و تبرعات عثمان كثيرة مشهورة معلمة بينة ، دونتها كتب التاريخ ، والسيرة المحمدية الشريفة .
و إذا كان المأثور عن الصحابة وعن النبي صلى الله عليه وسلم صدقة العلن والسر ، ففي كل خير ، والآية صريحة في ذلك . ولكن بعض العلماء فضل صدقة السر ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث البخاري:"سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله:إمام عادل ، وشاب نشأ في عبادة الله ، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ، ورجله قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه يرجع إليه ، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه ، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال:إني أخاف الله رب العالمين ، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه "{[409]} .
و قال بعض العلماء:إن الصدقة الفرض المقدر الأحب فيها الإعلان ، وصدقة الفرض المقدر هي الزكاة وصدقة الفطر . والصدقة غير المقدرة الأحب فيها الستر حتى لا يؤذى الفقير . ولقد أثر عن ابن عباس أنه كان يقول:( جعل الله صدقة السر في التطوع تفضل علانيتها بسبعين ضعفا ، وجعل صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها بخمس وعشرين ضعفا ) .
إنه بلا شك صدقة الفريضة المقدرة تكون علنا ، وهي معلنة بحكم أن الإمام يجمعها بعماله ، أو بمن ينوبهم عنه ، وأما صدقة التطوع فإنه بلا شك واضح أن سترها أولى للبعد عن الرياء ، ولعدم إيذاء الفقير ، ولكن قد يكون في إعلانها ما يتحقق بها الأسوة ، ويكون كدعوة عامة ، فلإنفاق في باب معين من أبواب غير المفروضة ، فيكون في الإعلان خير يفوق خير الستر ، ولكن بشرط البعد عن الرياء ، ولذلك كان السر في غير الفريضة المقدرة التي يجمعها ولي الأمر ، والأمر متروك لتقدير المنفق ؛ لأنه يتصل بقلبه أخلا من الرياء أم شابته شوائبه ؟ ولأنه يعرف حال الفقير الذي يعطيه ، أو يؤذيه الإعلان أم لا يؤذيه ؟ ولأنه هو الأدرى بفائدة الإعلان وفائدة الستر في أمر صدقته .
هذا هو الحكم العام في الصدقات في ماضيها عندما كان الناس يقومون بمراقبة نفوسهم ، وإنه بالنسبة لزماننا وقد ساد النفاق ، وسيطر الرياء ، وعطلت الفرائض ، نرى أن الستر أولى حتى تهذب النفوس ، وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم:أي الصدقة أفضل ؟ فقال صلى الله عليه وسلم:"سر إلى فقير أو جهد من مقل "{[410]} .
[ والله بما تعملون خبير] ختم سبحانه الآية الكريمة بذلك الختام السامي ، والمعنى فيه أن الله ذا الجلال والإكرام المعبود بحق ، الذي انفرد بالألوهية خبير ، أي عليم علما دقيقا صادقا بما تعملون أيها المؤمنون .
فهذه الجملة السامية تشعر المؤمن برقابة الله تعالى على أعماله ، وعل بواعث هذه الأعمال ، وعلى القلوب التي تنبعث منها النيات والمقاصد ، عليم سبحانه بكل ذلك ؛ فإذا أحس العبد برقابة الله القوي القادر بهذا العلم السامي نقى قلبه من كل شوائب الرياء في صدقاته كلها ، جهرها وسرها ، خافيها وظاهرها . ثم هذه الجملة كما تربي في نفس المؤمن المهابة من الله ، والشعور بمراقبته تتضمن وعدا ووعيدا ؛ لأنه إذا كان الله سبحانه وتعالى عليما علما دقيقا بكل ما يعمل العبد من خير وشر ، فإنه يكافئ العبد بما ينتج فعله ، إن خيرا فالثواب والنعيم المقيم ، وإن شرا فالعذاب الأليم .