وقوله:( إن تبدوا الصدقات فنعما هي ) أي:إن أظهرتموها فنعم شيء هي .
وقوله:( وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ) فيه دلالة على أن إسرار الصدقة أفضل من إظهارها ; لأنه أبعد عن الرياء ، إلا أن يترتب على الإظهار مصلحة راجحة ، من اقتداء الناس به ، فيكون أفضل من هذه الحيثية ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة والمسر بالقرآن كالمسر بالصدقة ".
والأصل أن الإسرار أفضل ، لهذه الآية ، ولما ثبت في الصحيحين ، عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله:إمام عادل ، وشاب نشأ في عبادة الله ، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ، ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يرجع إليه ، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه ، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال:إني أخاف الله ، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ".
وقال الإمام أحمد:حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا العوام بن حوشب ، عن سليمان بن أبي سليمان ، عن أنس بن مالك ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:"لما خلق الله الأرض جعلت تميد ، فخلق الجبال فألقاها عليها فاستقرت ، فتعجبت الملائكة من خلق الجبال ، فقالت:يا رب ، فهل من خلقك شيء أشد من الجبال ؟ قال:نعم ، الحديد . قالت:يا رب ، فهل من خلقك شيء أشد من الحديد ؟ قال:نعم ، النار . قالت:يا رب ، فهل من خلقك شيء أشد من النار ؟ قال:نعم ، الماء . قالت:يا رب ، فهل من خلقك شيء أشد من الماء ؟ قال:نعم ، الريح . قالت:يا رب ، فهل من خلقك شيء أشد من الريح ؟ قال:نعم ، ابن آدم يتصدق بيمينه فيخفيها من شماله ".
وقد ذكرنا في فضل آية الكرسي ، عن أبي ذر قال:قلت:يا رسول الله ، أي الصدقة أفضل ؟ قال:"سر إلى فقير ، أو جهد من مقل ". رواه أحمد .
ورواه ابن أبي حاتم من طريق علي بن يزيد ، عن القاسم ، عن أبي أمامة ، عن أبي ذر فذكره . وزاد:ثم نزع بهذه الآية:( إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ) الآية .
وفي الحديث المروي:"صدقة السر تطفئ غضب الرب ، عز وجل ".
وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي ، حدثنا الحسين بن زياد المحاربي مؤدب محارب ، أخبرنا موسى بن عمير ، عن عامر الشعبي في قوله:( إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ) قال:أنزلت في أبي بكر وعمر ، رضي الله عنهما ، فأما عمر فجاء بنصف ماله حتى دفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم:فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"ما خلفت وراءك لأهلك يا عمر ؟ ". قال:خلفت لهم نصف مالي ، وأما أبو بكر فجاء بماله كله يكاد أن يخفيه من نفسه ، حتى دفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم . فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"ما خلفت وراءك لأهلك يا أبا بكر ؟ ". فقال:عدة الله وعدة رسوله . فبكى عمر ، رضي الله عنه ، وقال:بأبي أنت يا أبا بكر ، والله ما استبقنا إلى باب خير قط إلا كنت سابقا .
وهذا الحديث مروي من وجه آخر ، عن عمر ، رضي الله عنه . وإنما أوردناه هاهنا لقول الشعبي:إن الآية نزلت في ذلك ، ثم إن الآية عامة في أن إخفاء الصدقة أفضل ، سواء كانت مفروضة أو مندوبة . لكن روى ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، في تفسير هذه الآية ، قال:جعل الله صدقة السر في التطوع تفضل علانيتها ، فقال:بسبعين ضعفا . وجعل صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها ، فقال:بخمسة وعشرين ضعفا .
وقوله:( ويكفر عنكم من سيئاتكم ) أي:بدل الصدقات ، ولا سيما إذا كانت سرا يحصل لكم الخير في رفع الدرجات ويكفر عنكم السيئات ، وقد قرئ:"ويكفر عنكم "بالضم ، وقرئ:"ونكفر "بالجزم ، عطفا على جواب الشرط ، وهو قوله:( فنعما هي ) كقوله:"فأصدق وأكون "( وأكن ) .
وقوله ( والله بما تعملون خبير ) أي:لا يخفى عليه من ذلك شيء ، وسيجزيكم عليه [ سبحانه وبحمده] .