[ ليس عليكم هداهم ولكن الله يهدي من يشاء] كان المسلمون الأولون قلة في أرض العرب ، وكان المشركون يحيطون بهم ، واليهود يجاورونهم ، وكان يربطهم بالفريقين صلة قرابة ، أو على الأقل صلة جوار ، فكان بعض المسلمين يمتنع عن مد يد المعونة بالمال ليهودي أو مشرك ، مع شديد حاجته إليه ، وكان ذلك الامتناع من قبل المعاملة بالمثل من جهة ، ولأن فقراء المسلمين أولى ، ولحمل أولئك على الدخول في الإسلام دين الوحدانية والعزة ، فبين الله سبحانه وتعالى أن الصدقة واجب إذا وجد سببها ، ووجدت الحاجة إلى العطاء من غير نظر إلى الموضع الذي يستحقها ، فإنك تكرم إنسانيته ، لا يهوديته ، ولا نصرانيته ولا إشراكه .
و لقد روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأمر بألا يتصدق إلا على أهل الإسلام ، فنزلت هذه الآية:[ ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء] . وقال ابن عباس أيضا:"كانوا ( أي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ) يكرهون أن يرضخوا لأنسابهم من المشركين ، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فرخص لهم ، فنزل قوله تعالى:[ ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء] .
و بهذين الخبرين يتبين أن هذه الآية الكريمة نزلت لبيان أن الصدقة تسوغ على غير المسلم ، بل تجب إذا كان غير المسلم في حاجة شديدة ، ويخشى عليه إن لم يقدم له عطاء ينقذه .
وإن هذه الآية وما يليها من آيات تبين من يستحقون الصدقات ومن يؤثرون ، فصدرها سبحانه وتعالى بالإشارة إلى أنه يسوغ إعطاء غير المسلمين ، بل يجب ، وبذلك التصدير يتبين موضع الإسلام من احترام الإنسانية ، والإخاء الإنساني العام ، فإنه يدعو إلى التعاون والسلم العام ، وما يحارب إلا لتقرير ذلك السلام ، فقد قال تعالى:[ يأيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة . . .208] ( البقرة ) وقال تعالى:[ وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله . . .61] ( الأنفال ) .
و معنى قوله تعالى:[ ليس عليك هداهم] أي أن الواجب المفروض عليك هو التبليغ والدعوة إلى ربك بالموعظة الحسنة ، فليس عليك أن تهدي عاصيا ، ولا تدخل الإيمان في قلب كافر ، فلا تمنع صدقة لأجل الكفر ، ولا تمنع عطية للحمل على الإيمان [ ولكن الله يهدي من يشاء] فهو يهدي من يسير في طريق الهداية ، ويفتح قلبه لنور الإيمان ، فيوفقه المولى العلي القدير العليم بما تخفي الصدور إلى الحق فيدركه بعد أن يأخذ في الأسباب ، ويسد عن قلبه مداخل الشيطان إليه .
و عليك أنت أيها الرسول أن تبلغ ما أنزل إليك ، وأن تعامل الناس بما يليق بأخلاق أهل الإيمان ، وباحترام الإنسانية وسد حاجة المعوزين ، ولو كانوا من المخالفين الذين يدينون بغير دينك ، وأن تعاملهم بالتي هي أحسن .
و بهذا المنهاج القويم أخذ السلف الصالح رضوان الله تبارك وتعالى عليهم مقتدين بالنبي صلى الله عليه وسلم . وإنه يروى أنه في الموادعة التي كانت بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين التي تمت في صلح الحديبية أصابت قريشا ضائقة ، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبى سفيان بن حرب زعيم الشرك في ذلك الإبان خمسمائة دينار يشتري به قمحا يفرج به ضائقتهم ، ويسد حاجة المعوزين منهم ، وهم مازالوا مشركين{[411]} .
و يروى أن عمر بن الخطاب وجد شيخا ذميا على باب المسجد يتكفف الناس ، فأجرى عليه رزقا مستمرا من بيت المال بعد أن قال له كلمته الرحيمة:"ما أنصفناك! أخذنا منك الجزية صغيرا ، وضيعناك كبيرا ".
و لقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يعطوا فقراء غير المسلمين من صدقة الفطر فقال عليه السلام:"أغنوهم عن سؤال هذا اليوم "{[412]} .
و إنه إذا كانت الصدقة جائزة على غير المسلمين فأولى أن تكون جائزة على عصاة المسلمين . وقد أجمع على ذلك علماء المسلمين ، ولم يشذ عن هذا الإجماع إلا ابن تيمية ، فقد أفتى بعدم جواز ذلك لئلا يكون ذلك تشجيعا لعصيانهم ، وهذا غير ما ورد في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم والبخاري عن أبي هريرة فقد قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"قال رجل:لأتصدقن الليلة بصدقة فوضعها في يد زانية فأصبح الناس يتحدثون:تصدق على زانية ، فقال:اللهم لك الحمد على زانية ، لأتصدقن الليلة بصدقة ، فوضعها في يد غني ، فأصبحوا يتحدثون:تصدق الليلة على غني ، قال:اللهم لك الحمد على غني ، لأتصدقن الليلة ، فخرج فوضعها في يد سارق فأصبحوا يتحدثون:تصدق الليلة على سارق فقال:اللهم لك الحمد على زانية وغني وسارق فأتى ، فقيل له:أما صدقتك فقد قبلت ، وأما الزانية فلعلها أن تستعف بها عن زناها ، ولعل الغني أن يعتبر فينفق مما أعطاه الله ، ولعل السارق أن يستعف بها عن سرقته "{[413]} .
[ وما تنفقوا من خير فلأنفسكم] بين سبحانه أن الصدقة تجوز لكل من يكون في حاجة إليها ، سواء أكان مؤمنا أم كان كافرا ، وسواء كان برا تقيا ، أم كان فاجرا عصيا ، فالعطاء لإنقاذ الإنسانية أيا كان صاحبها . بعد أن بين ذلك بين سبحانه أن الصدقة كيفما كانت ، وأيا كان موضعها هي خير لصاحبها ، وخيريتها ثابتة من ثلاث نواح:
الناحية الأولى:أنها تعود على نفسه بالتهذيب والتربية ، وتقوية الإحساس بحق الجماعة عليها ، والتأليف الروحي بينها وبين الناس ، وهذا ما ذكره سبحانه بقوله:[ وما تنفقوا من خير فلأنفسكم] أي أن كل شيء تنفقونه خير عائد على أنفسكم من حيث إنه يهذبها ، ويقوي صلاتها الاجتماعية ، ويرهف الوجدان ، وفوق هذا وذاك فإن الإنفاق يدفع غوائل اجتماعية إن سلطت على الجماعة أذهبت وحدتها ، وقوضت بناءها ، فإن أولئك الفقراء إن لم يمكنوا من حقهم في الحياة كانوا أداة تخريب وعنصر هدم ، وكانوا كالشاة إذا جوعتها انتشرت ذئبا ، وافترست كل ما في طريقها ، وإن دفع هذه الكوارث هو حماية للنفس ، ودفاع عن الوجود ، وهذا المعنى يتضمنه قوله تعالى:[ وما تنفقوا من خير فلأنفسكم] لأنه حماية لها .
فهذه هي الناحية الأولى التي تعود بالخير على المنفق ، أيا كان من يعطيه ، وأيا كان مقدار العطاء قليلا أو كثيرا ، ولذا قال:[ من خير] ف "من"الدالة على البعضية تنبئ عن أنه يجوز الإنفاق بالقليل والكثير ، وفي كل خير يعود على النفس .
و الناحية الثانية:ما أشار إليها سبحانه بقوله تعالى:[ وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله] فهذه الجملة السامية تثبت الخيرية في الصدقة ، ولو كانت لعاص أو كافر ، ذلك لأنه لا يقصد بالعطاء إرضاء العاصي أو الكافر إنما يقصد بالعطاء وجه الله تعالى ورضاه ، ورضا الله سبحانه وحدهغاية ترجى ، وخير عظيم يطلب ، ومقصد أسمى يتجه إليه المؤمن ويبتغيه طالب الهداية ، فإن المؤمن العامر قلبه بالإيمان يحس بروحانية إن طلب رضا الله وابتغاه ، أي طلبه بشدة .
و قوله تعالى:[ ابتغاء وجه الله] لا يدل على طلب رضا الله فقط ، بل يدل مع ذلك على طلب إقبال الله تعالى عليه ؛ لأن كلمة [ وجه الله] تدل على الرغبة في المواجهة والاتصال بالله تعالى ، وإقباله على ربه ، وإقبال ربه عليه ، وتلك منزلة روحية سامية حسبها جزاء للصدقة ، ولو كان المعطى كافرا عاصيا . ولقد قال بعض الصوفية في معنى [ ابتغاء وجه الله] أي طلب المتصدق وجه الباقي ، أي الناحية الباقية في الدنيا والآخرة ، وهي ناحية الله تعالى ، ولذا يقولون إن لكل شيء ولكل عمل وجهين:وجها يتجه إلى هذا العالم وما فيه من أناسي ، وهو الوجه الفاني ، والوجه الثاني هو الوجه الدائم الباقي ، وهو رضا الله تعالى .
هذه هي الناحية الثانية من الخيرية في النفقة بالنسبة للمنفق من غير نظر إلى من أنفق عليه .
أما الناحية الثالثة:فهي التي بينها قوله تعالى:[ وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون] في هذه الآية الكريمة يبين سبحانه جزاء الصدقات ، من حيث إنها تعود على المنفق مغباتها وثمراتها ، والمعنى:أن ما تنفقون من خير في هذه الدنيا يوفى إليكم جزاؤه في هذه الدنيا ، وفي الآخرة ، أما في الآخرة فبالنعيم المقيم الخالد ، وهو أضعاف مضاعفة للصدقة ، وجزاؤها في الدنيا من حيث إنها تقوية للعناصر الضعيفة في الأمة ، فتنقلب إلى عناصر قوة تمدها بالخير والمعونة الصادقة ، فتكون قوة عاملة منتجة تعود ثمرات أعمالها إلى الجميع ومنهم المنفقون ، وإن الفقراء إن لم يعطوا كانوا أداة تخريب وهدم ، والصدقة تجعلهم عنصر عمل وبناء ، وخير ذلك للجميع .
و قد أشار سبحانه إلى أن ذلك الجزاء الدنيوي والأخروي هو للصدقة ، وكأنه وفاء لها مولد منها ؛ ولذا سماه بها ، فقال:[ وما تنفقوا من خير يوف إليكم] أي يعود إليكم ذات الخير ، فالجزاء لأنه ثمرة لازمة كأنه هو نفس الإنفاق ، والنتيجة لأنها متولدة عن الإنفاق كانت كأنها هو . ثم ختم سبحانه الآية بقوله:[ وأنتم لا تظلمون] أي لا تنقصون أي جزاء لعمل قدمتموه لا تبغون به إلا وجه الله تعالى ، وهو العليم الحكيم القادر على كل شيء ، وإلى الله المصير .