ولكن الله يهدي من يشاء
وهنا تلتفت الآية إلى النبي( ص ) لتخفف عنه بعض الحالات السلبية التي قد تطوف في خاطره وهو يشاهد بعض أوضاع المؤمنين من حوله ،إذ ينحرفون عن الخط الذي يأمرهم به وينهاهم عنه من شؤون الإنفاق ،فقد كان يريد من المؤمنين أن يرتفعوا إلى مستوى إيمانهم في الانضباط والسير على هدى الله في جميع أمورهم .فأراد الله أن يضع له القضية في مكانها الطبيعي ،من أن دور النبي هو أن يفتح لهم أبواب الهدى ،ويهيىء لهم أجواء الفلاح ،وتنتهي مهمته عند استنفاد كل الأساليب في ذلك .وتبقى للأسباب الآخرى الخارجة عن إرادة رسول الله واختياره ،نتائجها السلبية والإيجابية في ما تقتضيه من حالات الهدى والضلال ...وهذا هو مدلول نسبة هدايتهم إلى الله ،باعتبار ارتباط الأسباب العادية للأشياء بخالقها ومسبّبها ،ما يوحي أن هذه النسبة لا تمنع نسبتها إلى العباد من حيث إنهم السبب المباشر للأشياء .ثم تلتفت الآية إلى المؤمنين لتدلهم على طريق الهدى وتدعوهم إلى سلوكه ،وتوحي إليهم بالفكرة التي ترجع فوائد العمل للعامل من دون أن يرجع إلى الله منها شيء ،وتهيب بهم أن يبتغوا وجه الله في إنفاقهمإذا أنفقوالأن ذلك هو الذي يجعل منه معنى يتصل بالله ويرتبط بالآخرة ،وهو الذي يستحق العبد من خلاله العوض من ربّه في الدنيا والآخرة من دون ظلم ولا حيف ولا نقصان .
{لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} في إلزامهم القسري بطريقةٍ غير عادية بالاستقامة على المنهج الأخلاقي في سلوكهم العملي في الإنفاق وغيره بالسير على خط الإخلاص وعدم المنّ على الفقراء في العطية والابتعاد عن التثاقل والتلكّؤ في دائرة مسؤولياتهم العامة والخاصة ،فإن دورك الرسالي هو إبلاغ الرسالة في تفاصيلها بكل جهدك في طرح الفكرة وتنويع الأسلوب ،وإيجاد الأجواء الملائمة التي تنفذمن خلالهاالفكرة إلى عقولهم لتكوين قناعاتهم على أساس ذلك كله ،فتلك هي قدرتك البشرية التي تتحرك الرسالة في نطاقها الخاص الطبيعي ،فلا تملك أيّ وضع آخر غير عادي ،لأن المعجزة ليست سبيلك في الهداية ،بل هي سبيلك بإذن الله في ردّ التحدي{وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ} بما أودعه في الإنسان من عناصر الهداية في أسبابها الوجودية ،وبما يمنحه من ألطافه الخاصة لبعض عباده الذين يريد أن يقرّبهم إلى دينه من خلال حكمته ورحمته التي يختص بها من يشاء .وبذلك تكون المهمّة النبوية في الهداية مهمّة تشريعية ،بينما تكون الخصائص التكوينية للهداية لله سبحانه بشكل مباشر أو غير مباشر .وفي ضوء ذلك ،كان نفي الهداية عن مسؤولية النبي تتصل بالهداية الفعلية الوجودية وإثباتها لله في هذا الجانب ،لتكون المسؤولية النبوية منحصرة في تهيئة الوسائل المتنوعة في نطاق القدرة البشرية التي يقنع فيها الإنسان إنساناً ليهديه إلى الإيمان بما يريد له الإيمان به .
{وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ} لأنكمأنتمالذين تحصلون على نتائجه في الدنيا والآخرة ،وليس لله من ذلك شيء ،لأنه الغني عنكم وعن كل عباده{وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَآءَ وَجْهِ اللَّهِ} فهو الذي ينبغي أن يتوجه الناس إليه في صدقاتهم وفي كل أعمالهم ،لأنههوالذي يملك المصير كله والثواب كله ،فله الأمر ،فلا بد للعباد من اتباع مواقع رضوانه للحصول عليه{وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ} في وجوه البر{يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} أجره كاملاً غير منقوص{وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} ،فإن الله لا يضيع عمل عامل من ذكر أو أنثى ،فالله لا يظلم أيّ عبد من عباده حقاً من حقوقه التي يستحقها من خلال ما جعله له من ذلك في وعده له بالثواب على العمل الصالح ،ولا ينقص منه شيئاً .