المستحقون للنفقة
ولكن من هم هؤلاء الذين يستحقون الإنفاق ،في ما يدعو إليه الله من الإنفاق في سبيله ،هل هم الذين لا يتركون مجالاً للمسألة إلا وانطلقوا فيه ،ممن تحوّل السؤال عندهم إلى مهنة للتعيش ،الأمر الذي قد يجعل من هذا التشريع تشجيعاً للبطالة والامتناع عن العمل والإخلاد إلى الراحة في الكسب السهل ؟
أو هم الذين ضاقت بهم سبل العيش بعد أن سلكوا ما قدروا عليه منها ،فلم يحصلوا من ذلك على نتيجة ،ووقفوا أمام ما لا يقدرون عليه منها عند حدود العجز ؟أو الذين فرضت عليهم ظروف الالتزام بالإسلام الخروج من ديارهم ،والابتعاد عن مواقعهم الطبيعية فيها للكسب الحلال بفعل ضغط القوى الكافرة المشركة التي منعتهم من الحصول على حاجاتهم الخاصة .وقد يتمثل هؤلاء بالمجاهدين الذين شغلهم الجهاد عن الكسب ،والمستضعفين الذين اضطهدهم المستكبرون فضيَّقوا عليهم سُبل الرزق ليسقطوا تحت تأثير ضغوطهم الفكرية أو العلمية ،وطلاب العلم الذين تفرغوا للعلم من أجل الدعوة أو بلوغ المستوى الذي يؤهلهم لسدّ حاجات أمتهم منه ،فلم يملكوا الجمع بينه وبين الكسب المادي لتحصيل ضرورات المعاش ،فعاشوا الجهد والفقر والعوز ،ولكنهم لم يقفوا على أبواب الأغنياء ليسألوهم ،لأن عفَّتهم وكرامتهم تأبى عليهم ذلك ،بل حاولوا أن يظهروا بمظهر الغني القادر على إعالة نفسه من خلال ما يظهرون به من مظاهر الاكتفاء في ما يأكلون ويلبسون ؟
وتجيب الآية على هذا السؤال ،فتحدد الفئة الثانية كمورد للإنفاق ،لأن الله لا يريد للناس القادرين على العمل أن يستسلموا للسؤال طلباً للعيش السهل ،لأن ذلك يحوّل المجتمع إلى مجموعات من العاطلين الذين يعيشون كلاً على غيرهم ،وهو ما يبغضه الإسلام ويحاربه ،بل يريد لهم الحصول على حاجتهم بعرق جبينهم وكدّ سواعدهم .أما الفئات العاجزة التي لا تملك وسائل العيش الكريم ،فإن المجتمع بكامله مسؤول عنها في ما يستطيعه من الإنفاق عليها ورعاية أمورها ورفع مستواها المادي والمعنوي .ثم تبشر الآية الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله سراً وعلانية ،بالأمن عند الله والسرور برضاه وثوابه ،جزاءً لهم على ما قدموه لله من طاعة وللمجتمع من خدمات كبيرة .
{لِلْفُقَرَآءِ الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} ومُنعوا من ممارسة حرياتهم في التحرك العملي من أجل كسب العيش بفعل الظروف السياسية والأمنية والاجتماعية الخانقة ،والضغوط الخارجية القاسية ،فلم يملكوا سبيلاً إلى تلبية حاجاتهم الضرورية .وقد جاء في أسباب النزول ،في الحديث عن الإمام محمد الباقر( ع ) وعن ابن عباس في ما رواه الكلبي عنه ،أن الآية نزلت في أصحاب الصفة ،وهم نحو من أربعمائة رجل لم يكن لهم مساكن بالمدينة ،ولا عشائر يأوون إليهم ،فجعلوا أنفسهم في المسجد وقالوا: نخرج في كل سريّةٍ يبعثها رسول الله ،فحث الله الناس عليهم ،فكان الرجل إذا أكل وعنده فضل أتاهم به إذا أمسى .
وقد ذكرنا في أكثر من موضع من التفسير أن أسباب النزول لا تحدّد المضمون القرآني في نطاق مناسباتها الخاصة ،لأنها تمثل المنطلق التي انطلقت منه الفكرة في الآية ليمتد في أمثاله وأجوائه في موارد أخرى متحركة في الأوسع منه في صعيد الزمان والمكان ،لأن القرآن يجري مجرى الشمس والقمر والليل والنهار ،فلا يتجمد في مورد ،ولا ينحصر في زمن ،كما جاء في الحديث عن أئمة أهل البيت( ع ) .
وفي ضوء هذا ،فإن كلمة{لِلْفُقَرَآءِ الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ} تشمل كل الذين توفرت فيهم هذه الصفة على مدى الزمن ممن لم يكن شأنهم في ترك العمل المعيشي من باب الكسل والاسترخاء والبعد عن المسؤولية ،بل من باب القيام يمسؤولياتهم العامة التي توحي بها كلمة{سَبِيلِ اللَّهِ} ليسافروا إلى هذا المكان أو ذاك مما تتوفر فيه الوسائل الطبيعية للحصول على الرزق ،وذلك من جهة الموانع الخارجية أو الداخلية المحيطة بأوضاعهم الخاصة والعامة التي تضغط على حرياتهم في الحركة في الذهاب والتصرف ،فلم تكن المسألة عجزاً طبيعياً في الذات ،بل من خلال الأجواء المتنوّعة .
{يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَآءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} فهم لا يظهرون بمظهر الفقير المسكين المحتاج في صرخات الجوع أو العطش ،أو في مظاهر البؤس في الثياب والمنازل ،بل يحاولون الظهور بمظهر الغنيّ القادر ،حفاظاً على كرامتهم والتزاماً بعفتهم وانتظاراً للفرج الإلهي الذي يخرجهم من مشاكلهم ،فهم يتمردون على الجوع والعطش والحاجة من موقع قوة الإرادة في عمق إيمانهم بالله الذي يرعى عباده المؤمنين ويجعل لهم مخرجاً ويرزقهم من حيث لا يحتسبون .
{تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ} أي بعلاماتهم الظاهرة من خلال النظرة إلى وجوههم ،لترى المعاناة القاسية المتمثلة في ملامحهم ،ولتتمثل فيها العنفوان النفسي الذي يوحي بالتمرد على كل أوضاع الألم المنبعث من الجوع والعطش والحاجة الملحّة .
{لاَ يَسألونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} أي ليسوا من الذين لا يصبرون على حاجاتهم فيسألون الناس بطريقة الإلحاح في المسألة ،فيكررونها مرة بعد أخرى ويتوسلون للحصول على ما يريدون من ذلك بمختلف الوسائل والأساليب ،ولكنهم يواجهون الموقف من موقع الشخصية العزيزة العفيفة المتعففة عن الناس المترفعة عن الشكوى للآخرين ،ما يعني أن المقصود بكلمة{لاَ يَسألُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} أنهم لا يسألون الناس أصلاً ،فلم يكن النفي متوجهاً إلى القيد ليكون المدلول اللفظي أنهم قد يسألون الناس بدون إلحاح ،بل كان موجهاً إلى النموذج الواقعي الذي يستخدم الإلحاح من خلال ضغط الحاجة عليه ،لأن طبيعة الحاجة تفرض ذلك ،لأنها من نوع الحاجات التي تفرض نفسها على الإنسان ليتخلى عن كثير من شؤون كرامته ،وهذا التعبير يشابه القول: ما رأيت مثله ،وأنت لم ترد أن له مثلاً ما رأيته ،وإنما تريد أنه ليس له مثل فيرى ،فمعناه لم يكن سؤال فيكون إلحاح ،كقول الأعشى:
لا يَغْمِز الساق من أين ومن نصب ولا يعضّ على شرسوفه الصَّفَرُ
ومعناه ليس بساقها أين ولا نصب فيغمزها ،ليس أن هناك أيناً ولا يغمز ،كما جاء في مجمع البيان .وقد ذكر صاحب الميزان ،أنه لا يبعد أن يكون المراد نفي الإلحاف لا أصل السؤال ،ويكون المراد بالإلحاف ما يزيد على القدر الواجب من إظهار الحاجة ،فإن مسمّى الإظهار عند الحاجة المبرمة لا بأس به ،بل ربما صار واجباً ،والزائد عليه وهو الإلحاف هو المذموم .
ولكننا نلاحظ أن الآية ليست في مقام بيان التفاصيل من حيث الإشارة إلى ما هو واجب أو راجح أو غير واجب وراجح في السؤال ،بل في مقام بيان الطبيعة القوية لهؤلاء ،بحيث يتمردون على آلام الحاجة وقد يموتون تحت تأثير ذلك ،فهي من نوع الحاجة الملحّة القاسية التي قد تدفع الآخرين إلى أن يسألوا الناس إلحافاً ولكنهم لا يفعلون ذلك ،ما يفرض على الناس اكتشافهم وسدّ حاجتهم بالصدقات ،لأنها شرّعت لأمثال هؤلاء من أجل حلّ مشكلتهم الضاغطة الصعبة .{وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ} في الموارد التي أرادكم الله أن تنفقوا فيها من الخير المنفتح على حاجات الناس والحياة{فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} فهو يجازيكم عليه .