للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم ( 273 )
بين سبحانه وتعالى في الآيات السابقة آفات الصدقات التي تذهب بخيرها بالنسبة لمعطيها من منٍّ وأذى ورياء وقصد إلى الخبيث دون الطيب ينفق منه ، مع أن الله طيبلا يقبل إلا طيبا ، ثم بين أنه لا يصح أن يكون الكفر أو العصيان سببا للمنع حيث يجب العطاء ، ليحمل المشرك على الإيمان ، والعاصي على الطاعة . بعد هذا بين سبحانه موضع الصدقات والصفات التي توجب العطاء في مستحقها ، وقد قصد سبحانه وتعالى إلى بيان موضع الأولوية فيها ، فقال تعالى:
[ للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله] أي أن الصدقة تكون للفقراء الذين اتصفوا بهذه الصفات ، وكانوا على تلك الأحوال ، وهي خمس ، فالجار والمجرور ( للفقراء ) خبر لمبتدأ محذوف يفهم من مطاوي الكلام الكريم السابق كله وثناياه؛ لأن الكلام السابق كله في الإنفاق في سبيل الله ، والصدقات المأجورة المشكورة ، وما يعكر إخلاصها ، ويعوق جزاءها ، فكان المحذوف المطوي في القول مع قيام المشير إليها هو "الصدقة "، فهو محذوف في حكم المذكور ، ولكن لماذا آثر النص القرآني الحذف مع أن الأصل الذكر ليتم النسق الكلامي ؟ الجواب عن ذلك هو ، أولا الإيجاز المعجز الذي يكون فيه قصر اللفظ مع غزارة المعنى ، وثانيا هو تعليم العباد من حيث إنه طوى لفظ الصدقة ، ولم يصرح فيه بالإسناد ، ووضعه بجوار الفقراء ، للإشارة إلى أن الأدب يوجب على المعطي ألا يصرح أن يعطيه بأن هذا صدقة ، حتى لا يحس بمذلة الأخذ ، فحذف القرآن لفظ الصدقة عند الإسناد إلى الفقراء مع وجوده في السابق من القول ، ليخفيه المعطي عند العطاء ، مع احتساب النية بإخفائه المقصد .
و قد ذكر الله سبحانه وتعالى للفقراء الذين يستحقون الصدقة أوصافا أو أحوالا خمسة:
الوصف الأول منها:ما ذكره سبحانه وتعالى بقوله:[ أحصروا في سبيل الله] أي منعوا من الكسب الحلال الطيب الذي يطلبه صاحبه مجاهدا في طلبه . فالإحصار هنا المنع ، وأصله من الحصر بمعنى التضييق كما قال تعالى:[ واحصروهم . . .5] ( التوبة ) أي ضيقوا عليهم . والإحصار هو التشديد في التضييق بالمنع من الحركة والسير والعمل المنتج المثمر . والمنع إما أن يكون لعجز مطلق بمرض أو شيخوخة أو صغر أو غير ذلك ، وإما أن يكون المنع بسبب ضيق مسالك الكسب ، فإن كان قادرا ولا يجد عملا مع طلبه ، أو هو مشغول عن طلب الرزق لنفسه بما هو أجدى على الجماعة وأنفع كالفدائيين الذين يتقدمون الصفوف ليفتدوا جماعتهم ، ويعلوا كلمة الحق ، ويخفضوا كلمة الباطل ، فكل هذا إحصار ومنع من اكتساب الرزق .
و عبر في الآية الكريمة ب [ أحصروا] بالبناء للمجهول للإشارة إلى أن فقرهم لم يكن نتيجة امتناع عن العمل المجدي النافع ، ولم يكن تخاذلا وكسلا ، أو تهاونا في طلب الرزق الحلال ، إنما كان بمنع من غيرهم ، أو ليس لهم فيه إرادة حرة قد آثروا فيها الكسل على العمل ، وإنما كان المنع عجزا ، أو لأنهم بمقتضى التوزيع العادل والتنسيق الكامل في الأعمال تحبسهم الجماعة عن طلب الرزق لينصرفوا إلى عمل آخر يجدي وينفع كالجهاد في سبيل الله ، فكانوا ممنوعين عن طلب الرزق بحكم الواقع أو التكليف ولم يكونوا ممتنعين .
و كلمة [ في سبيل الله] ما موضعها في الوصف المذكور ؟ قال بعض العلماء:إن كلمة في سبيل الله في هذا المقام فيها إشارة إلى سبب الإحصار والمنع ، وهو أنهم حبسوا أنفسهم للعمل في سبيل الله ، وانقطعوا عن المكاسب وطلب الرزق ؛ لأنهم ربطوا أنفسهم في سبيل الله بالجهاد في سبيل إعلاء الحق ، أو بالقيام بعمل عام ، وقالوا إن هذه الآية نزلت في أهل الصفة ، وهم طائفة من المهاجرين الفقراء انقطعوا عن أموالهم ، وأقاموا بالمدينة لا مرتزق لهم فيها ، ينتظرون غزوة يسيرون فيها ، أو سرية يذهبون معها ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر الصحابة ذوي اليسار باستضافتهم ، فتستضيف كل أسرة واحدا أو أكثر على حسب قدرتها ، ومن بقي منهم من غير استضافة بسط النبي صلى الله عليه وسلم مائدته لهم في المسجد وأكلوا معه ، وقد أقام لهم في المسجد صفة ، أي ظلة يأوون إليها يتقون الحر والبرد .
و على هذا التخريجيكون الإحصار المذكور في الآية ما يكون سببه الانصراف عن العمل بالاشتغال بعمل عام ، فإن هذا يوجب على الجماعة التي يعملون فيها أن تجري على العامل ما يكفيه وأهله بالمعروف ، فإن لم تفعل الدولة ذلك ، وهي التي تمثل الجماعة ، تولى الآحاد والجماعات من الناس تهيئة أسباب الرزق لهم بما يكفيهم .
و لكن الأوصاف اللاحقة لهذا الوصف تومئ إلى أن الآية الكريمة يدخل في عمومها كل فقير يتعفف عن السؤال ، ولا يستطيع كسب عيشه لأي سبب من الأسباب المانعة أو المعوقة من العمل للرزق ، بل إن قوله تعالى:[ لا يسألون الناس إلحافا] ، يجعل موضوع الآية الكريمة الفقراء العاجزين عن الكسب غير المتفرغين لخدمة عامة؛ لأن هؤلاء لا يتعرضون للسؤال ثم يمتنعون عنه ، إنما الذي يتعرض له ، ويعف عنه هو العاجز لغير ذلك السبب .
حينئذ يكون قوله تعالى:[ في سبيل الله] أعم من الحال التي ذكرها أولئك المفسرون بأن يكون معناها ، أي في سبيل القيام بما يجب عليهم ، سواء أكان ذلك الواجب رزقا يطلبونه ، ولكنهم يعجزون عن الحصول عليه ، فهم في سبيل هذا الطلب في سبيل الله ، أم كان ذلك الواجب خدمة عامة حبسوا أنفسهم لها ، أو القيام بأمر من الفروض الكفائية التي تخصصوا في بعضها كطلب العلم ، فإن هؤلاء على المجتمع فرادى وجماعات وعلى الدولة أن تسهل لهم الحياة ، وتمكنهم من الاستمرار على طلب ما يطلبون .
والخلاصة أن الإحصار على هذا يشمل العجز المادي عن الكسب إما لمرض أو شيخوخة أو نحوهما ، أو لطلب العمل مع عدم القدرة عليه ، كما يشمل الذين حبسوا لتكليف عام ، والقيام بفرض من فروض الكفاية .
و أما الوصف الثاني من أوصاف أولئك الفقراء الذين هم أولى الناس بالإنفاق عليهم [ لا يستطيعون ضربا في الأرض] . والضرب في الأرض إما أن نقول إنه بمعنى الذهاب في الأرض والسفر فيها طلبا للرزق ، إذ إن المسافر يضرب في الأرض برجله كما قال تعالى:[ وإذا ضربتم في الأرض . . . 101] ( النساء ) والمعنى على هذا أن هؤلاء لا يستطيعون السفر للاتجار وكسب الرزق .
إما أن يقال هذا ، وإما أن يقال الضرب في الأرض بمعنى حرثها وزرعها ، فإن الحارث الزارع يضرب الأرض بفأسه ويشقها بمحراثه . والأولى في نظري أن تكون كلمة الضرب في الأرض شاملة ، وأن يكون النفي شاملا ، أي أن هؤلاء الفقراء لا يستطيعون العمل في الأرض بالزراعة ، أو الذهاب فيها للاحتطاب والكسب ، أو السفر للاتجار ، والتنقل بين الأمصار سعيا في الرزق ، لا يستطيع أولئك الفقراء شيئا من هذا بسبب العجز المادي ، أو لأنهم حبسوا لنفع عام ، أو واجب كفائي على العموم ، وقد تخصصوا هم لأدائه ، ولقد قال صلى الله عليه وسلم:"لا تحل الصدقة لغني ، ولا لذي مرة سوى "{[414]} .
و أما الوصف الثالث من أوصاف أولئك الفقراء الذين هم جديرون بالعطاء أنهم [ يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف] ، ومعناه أنهم متجملون لا يعرف حالهم من فقر مدقع إلا أهل الخبرة بالنفوس وذوو البصيرة النفاذة ، والفراسة الصادقة ، فهم لا يعرفون بفقرهم وحاجتهم وعوزهم ، بل يحسبهم الجاهل ، أي يظنهم أغنياء ويقوم ذلك بحسبانه وتقديره من غير أمارات ظاهرة وبينات قائمة ، فالظن في قوله تعالى:[ يحسبهم] ظن في حسبان صاحبه فقط ، و"الجاهل "إما أن يكون المراد به من لا يعرف حالهم ، أو المراد به هنا من لا ينفذ إلى حقائق الأمور ، بل يأخذها بمظاهرها التي تبدو بادي النظر ، وليس عنده إحساس مرهف يعاونه على إدراك حال هؤلاء الفقراء مما يحيط بهم لا من مجرد الظاهر ، وهذا هو الحق . و"التعفف ":تكلف العفة إما بالمبالغة فيها ، والشدة في النزاهة ، أو بمحاولة الصبر عليها وتحمل المشقة في سبيلها ، أي أن الدواعي لتركها أقوى من البواعث على الاستمساك بها ، ولكنه يستعين بالصبر ، فيرجح العفة بعد تكلف المشقة واحتمالها . والآية الكريمة تقبل المعنيين ، فإن الفقير العاجز عن الكسب عند تحمله ما يتحمل الحر الكريم في سبيل عفته ، والمحافظة عليها مبالغ في العفة؛ أولا:لأن المبالغة في العفة ليست بالقدر منها ، إنما يكون بقدر ما يبذل في سبيل المحافظة عليها ، فالغنييبالغ في العفة إن امتنع عن أخذ أموال الناس ، أو طلب المعونة منهم أو أكل مالهم بالباطل ، أو سرقتهم أو اغتصابهم ، ولكن العاجز عن الكسب يعد مبالغا في العفة إن امتنع عن طلب المعونة ، وهو في أمس الحاجة إليها . . وهذا الفقير يبالغ في العفة ، ثانيا:بتحمل المشقات والتصبر عليها وفي سبيلها .
و أما الوصف الرابع فهو [ تعرفهم بسيماهم] وهو أمر متصل بهم وبمن يراهم من ذوي الحس المرهف ، والبصيرة النافذة ، ولذا كان الخطاب بمعرفة سيماهم للنبي صلى الله عليه وسلم ، وهو البصير النافذ البصيرة ، ولمن كان مقتديا به من كل مؤمن قوي الوجدان ، ممن قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم:"اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله "{[415]} .
و السيما:العلامة ، فما هي علامة الفقراء المتجملين الذين ستروا حاجتهم ، والتي يعرفون بها ؟ قال بعض العلماء:التواضع والخشوع ، وقال بعضهم:الرثاثة ومظاهر الفقر ، وقال بعضهم:الجوع وآثاره . والحق أن الله سبحانه وتعالى لم يبين لنا هذه العلامة التي يعرفون بها ، ولكنه ذكر أنها تعرف لذي البصيرة ، أي أن الشخص المدرك الفاهم يستطيع معرفتها بزكانة{[416]} نفسه ، من لمحات الوجه ، ومن تعرف مصادر الشخص وموارده ، وما يحاول به ستر حاله ، فإنه مهما يحاول الفقير التجمل والصبر فإنه لا بد أن تبدو حاجته لذي البصيرة الكريم الذي لا يعلن عورات الناس ، فالعلامة إذن هي الظاهرة التي تبدو للفاحص الذي يطمأن إليه .
و قد ذكر الله سبحانه وتعالى بهذا أمرين:أحدهما ينسب للجاهل وهو الظن بأنهم من الأغنياء ، إذ قال سبحانه:[ يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف] ، هذا الظن الجاهل بالنفوس يحسبهم لفرط تجملهم بالصبر أغنياء ، والأمر الثاني أن لهم سيما ومظهرا لا يعرفه الجاهل ، ويعرفه غيره بالنظر الفاحص العاطف ، الكاشف الساتر .
و أما الوصف الخامس من أوصافهم أنهم [ لا يسألون الناس إلحافا] أي أنهم لا يسألون الناس ، ولا يلحفون في السؤال أو الطلب ؛ ولقد قال الزمخشري في معنى "إلحافا ": "الإلحاف الإلحاح ، وهو اللزوم ، وألا يفارقه إلا بشيء يعطاه من قولهم:( لحفني من فضل لحافه ) أي أعطاني من فضل ما عنده "، وقال الراغب الأصفهاني:"أصله من اللحاف ، وهو ما يتغطى به "وعلى هذا يكون معنى الإلحاف:هو الملازمة في الطلب وملاصقة من يطلب العطاء كملاصقة اللحاف لمن يستتر به ، أو الإلحاف يأخذ به الفضل الذي يعطاه .
و قد اختلف العلماء في النفي بهذه الجملة السامية:أهو النفي للإلحاف وليس نفيا للسؤال ؛ أي أنهم يسألون ولكن لا يلحفون في السؤال ، أم هو نفي للسؤال مطلقا سواء أكان إلحافا أم من غير إلحاف ؟
قال بعض العلماء:إن النص الكريم يفيد بظاهره نفي الإلحاف لا نفي أصل السؤال ؛ لأن النفي منصب عليه ، إذ النفي إذا كان لأمر مقيد بوصف يكون موضعه ومناطه هو القيد ، لا الأصل .
و قال بعض آخر:إن أولئك الفقراء لا يسألون مطلقا لا بإلحاف ولا بغير إلحاف ، وإني أرى أن ذلك هو الراجح ؛ لأنهم لو كانوا يسألون ما حسبهم الجاهل أغنياء من التعفف ولو كانوا يسألون ما كانوا متعففين ، ولو كانوا يسألون ما احتاج البصير ذو الوجدان إلى تعرف حالهم بالمظاهر والسمات ، فإن طلبهم يغني عن التعرف ، إذ هم يعرفون أنفسهم بالسؤال ، فسياق الآية يفيد أنهم لا يسألون مطلقا ، ولكن لماذا كان النفي متجها إلى الإلحاف في ظاهره ، لا في أصل السؤال ؟ فنقول في الجواب عن ذلك:إن النفي ذكر بهذه الصيغة ، ليكون فيه إيماء إلى أن يوازيهم المعطي بغيرهم ، وأن غيرهم يسأل الناس إلحافا وهم لا يسألون ، فالله سبحانه وتعالى نفى عنهم ما يقع من غيرهم ، والنفي بهذه الصيغة فيه تعريض بالملحفين ، وبه يبدو فضل المتعففين .
و في الحقيقة إن نفي السؤال قد فهم فهما ضمنيا واضح الدلالة من الأوصاف السابقة ، أما الوصف الأخير فهو ينفي عنهم ما يقع من غيرهم وهو الإلحاف ، ويندر أن يكون سائل غير ملحف ، وذلك لأن السؤال حيث وقع يكون التعفف قد زال ، وإذا زال التعفف وجد الطلب والرغبة في الأخذ ، وعند ذلك يكون الإلحاف حتما .
و إنه بلا شك يجب على المعطي أن يبتدئ في عطائه بأولئك المتعففين الذين لا يسألون ؛ لأنهم الذين يستحقون ، وهم المساكين كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان ، إنما المسكين المتعفف ، اقرءوا إن شئتم [ لا يسألون الناس إلحافا] "{[417]} .
و إنه إذا أعطي هذا المتعفف يجب عليه أن يستر حاله ، ولا يكشف أمره ، ليكون ذلك عونا له على تعففه وتحمله ، وكل كشف له أذى ، والأذى من آفات الصدقات .
و إذا فضل شيء بعد كفاية المتعفف أعطي السائل ، فإن مذلة السؤال توجب العطف ، ولذا ورد:"للسائل حق ولو جاء على فرس "{[418]} وإن على من يعطي سائلا أن يتعرف حاله أهو يسأل متكثرا ، وهو غني أم هو فقير يسأل مستعينا ؟ وليتهم نفسه وشحه قبل أن يتهم السائل ، ولأن يخطئ في إعطاء غني عن جهالة خير من أن يخطئ بمنع فقير تظننا وتأثما ، فإن في الأول ثوابا له بنيته ، وفي الثاني إثما عليه بتغليب شح نفسه ، وتركه فقيرا يتضور جوعا ، مسوغا ذلك بالظن الآثم والتهمة .
و إن الإثم في ترك السائلين يسألون إنما هو في عدم تنظيم الإحسان ، وإغناء الفقراء عن مذلة السؤال .
و لقد تكلم العلماء في السؤال أهو سائغ من الفقير أم غير سائغ ، فاتفقوا على أنه جائز عند الضرورة ، وأنه لا يصح أن يسأل من عنده قوت يكفيه . ولقد روى الإمام أحمد بن حنبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"المسألة لا تحل إلا لثلاثة:لذي فقر مدقع ، أو لذي غرم مفظع ، أو لذي دم موجع "{[419]} .
و إن السؤال في غير هذه الأحوال غير سائغ ، وهو داخل في عموم النهي ، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"لأن يغدو أحدكم فيحتطب على ظهره فيتصدق به ويستغني به من الناس خيرا من أن يسأل رجلا أعطاه أو منعه "{[420]} فالسؤال حيث القدرة على العمل غير جائز .
و لقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من جمر جهنم "قالوا يا رسول الله:وما يغنيه ؟ قال:"ما يغديه أو يعشيه "{[421]}
و إن كل سائل وعنده ما يغنيه يعد ملحفا ، والإلحاف بكل صوره منهي عنه ، ولذا قال صلى الله عليه وسلم:"من استعف أعفه الله ، ومن استغنى أغناه الله ، ومن يسأل الناس ، وله عدل خمس أواق فقد سأل الناس إلحافا "{[422]} .
و في الجملة إن السؤال ذل وأمر قبيح لا يلجأ إليه المؤمن إلا عند الضرورة ، وعلى من يرى سائلا أن يعطيه إن كان المعطي في سعة ، وإن قام في نفسه أنه غني لا يعطيه ، ولكن عليه أن يحتاط لدينه كما يحتاط لصدقته ، وخصوصا في عصرنا هذا الذي أهمل فيه حق الفقير ، فلا يجري عليه رزق دائم من الدولة ، وليس للناس مروءات يغنون بها ذوي الحاجات ، فكان حقا على الناس أن يعطوا هؤلاء المحرومين ،كما قال تعالى:[ وفي أموالهم حق للسائل والمحروم 19] ( الذاريات ) .
[ وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم] هذه الجملة السامية ختمت بها الآية الكريمة ، لثلاثة أمور:
أولها:تربية الشعور بمراقبة الله في نفس المؤمن ، فإنه إذا أحس أن الله سبحانه وتعالى مطلع على كل ما يعمل من خير وشر ، أحس بمراقبته سبحانه ، ودام ذكره له ، وشعوره بعظمته ، فيكون في مقام العبودية الرفيع ، ويعبد الله كأنه يراه ، كما قال صلى الله عليه وسلم:"اعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك "{[423]} .
ثانيها:هو الإحساس برضا الله عنه عند فعل الخير ، إذ إن الله يراه وهو يفعله ، والإحساس بمرضاة الله مقام جليل ، فرضوان الله أكبر من كل نعيم .
ثالثها:العلم بالجزاء الأخروي ؛ فإنه يثيبه عليه ، لأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا .