[ الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية] هذا ختام آيات الإنفاق في سبيل الله ، وقد ختم سبحانه هذه الآيات كما بدأها ، بدأها بالجزاء الأوفى لمن يتصدق وينفق في سبيل الله ، وختمها بالعاقبة الحسنى لمن يتحرى في الصدقات مواضعها ، أيا كان زمنها ، وأيا كان حالها ، فتستوي نفقة الليل ونفقة النهار ، وصدقة السر وصدقة العلن ، ما دامت الصدقات قد قصد بها مرضاة الله تعالى ، وسلمت من آفاتها وهي:المن والأذى والرياء .
و قوله تعالى:[ الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار] فيه بيان عموم الأزمان ، فليس للصدقات وقت معلوم تقبل فيه ، وآخر ترد وترفض ، بل هي خير كلها ، المقصود منها النفع العام ، وهو متحقق فيها ليلا ونهارا ، وغدوة وعشيا ، وفي الضحى وفي الأصيل ، فالعبرة بالفعل ونيته ونتيجته لا بزمانه ولا بوقته . وقوله تعالى:[ سرا وعلانية] فيه بيان عموم الأحوال ، ما دامت الصدقة قد خلت مما يرنق صفو الإخلاص فيها ، ولا يجعلها خالصة لوجه الله الكريم . ولقد قالوا إن تقديم الليل على النهار ، والسر على العلانية فيه إيماء إلى أن الأولى الإخفاء والستر ، وإن ذلك واضح ؛ لأن في الإخفاء والستر احتياطا للنفس وصونا لها عن كل ما يؤدي إلى الرياء ، فإن الإعلان قد يؤدي إلى الحمد والثناء ، وقد يستمرئ المعطي ذلك ، ويستطيبه ، ثم يطلبه ويقصده ، وعند ذلك يدخل الرياء ، إذ يجد الثغرة في هذا الموضع فينفذ إلى النفس منها .
و هناك نوع من التعميم آخر في الآية غير عموم الزمان والحال ، وهو عموم الإنفاق ، فقد قال تعالى:[ الذين ينفقون أموالهم] ولم يقل مثلا يطعمون ، فالإنفاق باب واسع يشمل الإطعام والكسوة ، كما يشمل سداد الدين ودفع المغارم ، وإعداد العدة في سبيل الله تعالى ، وإمداد المحاربين ، وشراء ما يخصص للنفع العام ، كشراء عثمان بئر رومة ، فكل هذا من الإنفاق ، وعمم مع الإنفاق الأموال التي تنفق ، فكله خير وكله له جزاؤه .
[ فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون] هذا جزاء الذين ينفقون بإخلاص غير مقيدين بزمان ولا حال ولا مكان ، ولا قدر من الإنفاق ، ولا نوع منه . والجملة موقعها من الإعراب أنها خبر والمبتدأ:الذين ينفقون ، ودخلت الفاء في الخبر ؛ لأن الموصول في معنى الشرط ، فتدخل الفاء في خبره جوازا ، كما تدخل جواب الشرط .
و الجزاء الذي ذكره سبحانه وتعالى ثلاثة أنواع:
أولها:الثواب يوم القيامة ، وفي الدنيا ، وذلك بالبركة ، وبفضل التعاون الذي توجده الصدقة والإنفاق في سبيل الله؛ ثم بالنعيم المقيم يوم القيامة . وقد سمى سبحانه وتعالى ذلك أجرا ، وسماه في مواضع أخرى جزاء ، مع أنه المعطي والمانع ، والرازق والباسط ، وذلك تفضل منه وكرم ، ولنتعلم من الله عدم المن في العطاء .
و الثاني من الجزاء:الأمن من الخوف ؛ إذ قال سبحانه:[ ولا خوف عليهم] والصدقة تؤمن من الخوف في الدنيا وفي الآخرة ، فهي أمن من عذاب الله يوم القيامة ، إذ إنها تكفر السيئات ، كما قال تعالى:[ إن الحسنات يذهبن السيئات . . .114] ( هود ) وكما قال صلى الله عليه وسلم:"الصدقة تطفئ الخطيئة "{[424]} ، أما الأمن من الخوف في الدنيا ، فلأن الإنفاق في مواضع الإنفاق وقاية للمجتمع من غوائل الفقر ، وعوامل التخريب ، فلا يحصن مال الغني إلا الإنفاق في كل ما يعود على الفقير والمجتمع بالنفع ، وإن الأمن من الخوف بالإنفاق واضح كل الوضوح في الإنفاق لإمداد القوات المجاهدة في الدفاع عن الأمة ، كما هو واضح في سد حاجات الفقير ، وتهيئة فرص الحياة الرفيعة والعمل له .
والثالث من أنواع الجزاء:نفي الحزن ، والبعد عن أسبابه . والحزن هم نفسي ، ولذا عبر عنه بالفعل الذي يصور النفس والشخص فقال سبحانه:[ ولا هم يحزنون] وهم النفس يدفع بالاعتماد على الله ، وطلب رضاه ، واطمئنان الضمير ، وبرد اليقين ، وذلك كله يتحقق في الدنيا بالصدقة ، وزوال الحزن في الآخرة بها أعظم وأكبر .
هذا والآية عامة تشمل كل من يسارع إلى الإنفاق في وقت الحاجة إليه في سر أو في إعلان ، في ليل أو في نهار ، غير قاصد بما أنفق إلا الخير يبتغيه ، ومرضاة الله سبحانه وتعالى ، لا يرائي ولا يمنّ ولا يؤذي ، ولقد ذكر العلماء أن الآية مع عمومها وجدت روايات في سبب نزولها .
و هذه الروايات كلها لا تمنع عمومها ، وإنها تبين فضل المنفق المخلص الذي يعم إنفاقه ، ويجيء في وقت الحاجة إليه ، و"الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه "{[425]} .