وقوله:( للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله ) يعني:المهاجرين الذين قد انقطعوا إلى الله وإلى رسوله ، وسكنوا المدينة وليس لهم سبب يردون به على أنفسهم ما يغنيهم و ( لا يستطيعون ضربا في الأرض ) يعني:سفرا للتسبب في طلب المعاش . والضرب في الأرض:هو السفر ; قال الله تعالى:( وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة ) [ النساء:101] ، وقال تعالى:( علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله ) الآية [ المزمل:20] .
وقوله:( يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف ) أي:الجاهل بأمرهم وحالهم يحسبهم أغنياء ، من تعففهم في لباسهم وحالهم ومقالهم . وفي هذا المعنى الحديث المتفق على صحته ، عن أبي هريرة قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ليس المسكين بهذا الطواف الذي ترده التمرة والتمرتان ، واللقمة واللقمتان ، والأكلة والأكلتان ، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ، ولا يفطن له فيتصدق عليه ، ولا يسأل الناس شيئا ". وقد رواه أحمد ، من حديث ابن مسعود أيضا .
وقوله:( تعرفهم بسيماهم ) أي:بما يظهر لذوي الألباب من صفاتهم ، كما قال [ الله] تعالى:( سيماهم في وجوههم ) [ الفتح:29] ، وقال:( ولتعرفنهم في لحن القول ) [ محمد:30] . وفي الحديث الذي في السنن:"اتقوا فراسة المؤمن ، فإنه ينظر بنور الله "، ثم قرأ:( إن في ذلك لآيات للمتوسمين ) [ الحجر:75] . .
وقوله:( لا يسألون الناس إلحافا ) أي:لا يلحون في المسألة ويكلفون الناس ما لا يحتاجون إليه ، فإن من سأل وله ما يغنيه عن السؤال ، فقد ألحف في المسألة ; قال البخاري:
حدثنا ابن أبي مريم ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شريك بن أبي نمر:أن عطاء بن يسار وعبد الرحمن بن أبي عمرة الأنصاري قالا:سمعنا أبا هريرة يقول:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان ، ولا اللقمة واللقمتان ، إنما المسكين الذي يتعفف ; اقرؤوا إن شئتم يعني قوله:( لا يسألون الناس إلحافا ) .
وقد رواه مسلم ، من حديث إسماعيل بن جعفر المديني ، عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر ، عن عطاء بن يسار وحده عن أبي هريرة ، به .
وقال أبو عبد الرحمن النسائي:أخبرنا علي بن حجر ، حدثنا إسماعيل ، أخبرنا شريك وهو ابن أبي نمر عن عطاء بن يسار ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان ، واللقمة واللقمتان ، إنما المسكين المتعفف ; اقرؤوا إن شئتم:( لا يسألون الناس إلحافا ) ".
وروى البخاري من حديث شعبة ، عن محمد بن زياد ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، نحوه .
وقال ابن أبي حاتم:أخبرنا يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني ابن أبي ذئب ، عن أبي الوليد ، عن أبي هريرة:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ليس المسكين بالطواف عليكم ، فتطعمونه لقمة لقمة ، إنما المسكين المتعفف الذي لا يسأل الناس إلحافا ".
وقال ابن جرير:حدثني معتمر ، عن الحسن بن ماتك عن صالح بن سويد ، عن أبي هريرة قال:ليس المسكين الطواف الذي ترده الأكلة والأكلتان ، ولكن المسكين المتعفف في بيته ، لا يسأل الناس شيئا تصيبه الحاجة ; اقرؤوا إن شئتم:( لا يسألون الناس إلحافا )
وقال الإمام أحمد أيضا:حدثنا أبو بكر الحنفي ، حدثنا عبد الحميد بن جعفر ، عن أبيه ، عن رجل من مزينة ، أنه قالت له أمه:ألا تنطلق فتسأل رسول الله صلى الله عليه سلم كما يسأله الناس ؟ فانطلقت أسأله ، فوجدته قائما يخطب ، وهو يقول:"ومن استعف أعفه الله ، ومن استغنى أغناه الله ، ومن يسأل الناس وله عدل خمس أواق فقد سأل الناس إلحافا ". فقلت بيني وبين نفسي:لناقة لي خير من خمس أواق ، ولغلامه ناقة أخرى فهي خير من خمس أواق فرجعت ولم أسأل .
وقال الإمام أحمد:حدثنا قتيبة ، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الرجال ، عن عمارة بن غزية ، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد ، عن أبيه قال:سرحتني أمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أسأله ، فأتيته فقعدت ، قال:فاستقبلني فقال:"من استغنى أغناه الله ، ومن استعف أعفه الله ، ومن استكف كفاه الله ، ومن سأل وله قيمة أوقية فقد ألحف ". قال:فقلت:ناقتي الياقوتة خير من أوقية . فرجعت ولم أسأله .
وهكذا رواه أبو داود والنسائي ، كلاهما عن قتيبة . زاد أبو داود:وهشام بن عمار كلاهما عن عبد الرحمن بن أبي الرجال بإسناده ، نحوه .
وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي ، حدثنا أبو الجماهير ، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الرجال ، عن عمارة بن غزية ، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد قال:قال أبو سعيد الخدري:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من سأل وله قيمة وقية فهو ملحف "والوقية:أربعون درهما .
وقال أحمد:حدثنا وكيع ، حدثنا سفيان ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن رجل من بني أسد قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من سأل وله أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافا ".
وقال الإمام أحمد أيضا:حدثنا وكيع ، حدثنا سفيان ، عن حكيم بن جبير ، عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد ، عن أبيه ، عن عبد الله بن مسعود قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من سأل وله ما يغنيه ، جاءت مسألته يوم القيامة خدوشا أو كدوحا في وجهه ". قالوا:يا رسول الله ، وما غناه ؟ قال:"خمسون درهما ، أو حسابها من الذهب ".
وقد رواه أهل السنن الأربعة ، من حديث حكيم بن جبير الأسدي الكوفي . وقد تركه شعبة بن الحجاج ، وضعفه غير واحد من الأئمة من جراء هذا الحديث .
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني:حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي ، حدثنا أبو حصين عبد الله بن أحمد بن يونس ، حدثني أبي ، حدثنا أبو بكر بن عياش ، عن هشام بن حسان ، عن محمد بن سيرين قال:بلغ الحارث رجلا كان بالشام من قريش أن أبا ذر كان به عوز ، فبعث إليه ثلاثمائة دينار ، فقال:ما وجد عبد الله رجلا هو أهون عليه مني ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"من سأل وله أربعون فقد ألحف "ولآل أبي ذر أربعون درهما وأربعون شاة وماهنان . قال أبو بكر بن عياش:يعني خادمين .
وقال ابن مردويه:حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، أخبرنا إبراهيم بن محمد ، أنبأنا عبد الجبار ، أخبرنا سفيان ، عن داود بن سابور ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من سأل وله أربعون درهما فهو ملحف ، وهو مثل سف الملة "يعني:الرمل .
ورواه النسائي ، عن أحمد بن سليمان ، عن يحيى بن آدم ، عن سفيان وهو ابن عيينة بإسناده نحوه .
قوله:( وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم ) أي:لا يخفى عليه شيء منه ، وسيجزي عليه أوفر الجزاء وأتمه يوم القيامة ، أحوج ما يكونون إليه .