)لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ ) ( البقرة:272 )
التفسير:
قوله تعالى:{ليس عليك هداهم}؛الخطاب هنا للرسول ( ص ) ؛و{هداهم}: الضمير يعود على بني آدم ؛والهدى المنفي هنا هدى التوفيق ؛وأما هدى البيان فهو على الرسول صلى الله عليه وسلم ؛لقوله تعالى:{يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك} [ المائدة: 67]؛ولقوله تعالى:{إن عليك إلا البلاغ} [ الشورى: 48] ،وقوله تعالى:{فذكر إنما أنت مذكر * لست عليهم بمسيطر} [ الغاشية: 21 ،22] ،وقوله تعالى:{فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب} [ الرعد: 40] ...إلى آيات كثيرة تدل أن على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يهدي الناس هداية الدلالة ،والإرشاد ؛أما هداية التوفيق فليست على الرسول ،ولا إلى الرسول ؛لا يجب عليه أن يهديهم ؛وليس بقدرته ولا استطاعته أن يهديهم ؛ولو كان بقدرته أن يهديهم لهدى عمه أبا طالب ؛ولكنه لا يستطيع ذلك ؛لأن هذا إلى الله سبحانه وتعالى وحده .
قوله تعالى:{ولكن الله يهدي من يشاء}؛وهذا كالاستدراك لما سبق ؛أي لمّا نفى كون هدايتهم على الرسول صلى الله عليه وسلم بين أن ذلك إلى الله عز وجل وحده ؛فيهدي من يشاء ممن اقتضت حكمته هدايته .
قوله تعالى:{وما تنفقوا من خير فلأنفسكم} أي: وليس لله عز وجل ؛فالله سبحانه وتعالى لا ينتفع به ؛بل لأنفسكم تقدمونه ؛وما لا تنفقونه فقد حرمتم أنفسكم ؛و{ما} هذه شرطية بدليل اقتران الجواب بالفاء في قوله تعالى:{فلأنفسكم}؛وقوله تعالى:{من خير} بيان ل{ما} الشرطية ؛لأن{ما} الشرطية مبهمة تحتاج إلى بيان ؛يعني: أيَّ خير تنفقونه فلأنفسكم ؛والمراد ب «الخير » كل ما بذل لوجه الله عز وجل من عين ،أو منفعة ؛وأغلب ما يكون في الأعيان .
وقوله تعالى:{فلأنفسكم}: الفاء رابطة للجواب ؛والجار والمجرور خبر لمبتدأ محذوف ؛والتقدير: فهو لأنفسكم ؛يعني: وليس لغيركم .
قوله تعالى:{وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله} يعني: لا تنفقون إنفاقاً ينفعكم إلا ما ابتغيتم به وجه الله ؛فأما ما ابتغي به سوى الله فلا ينفع صاحبه ؛بل هو خسارة عليه .
وقوله تعالى:{إلا ابتغاء} أي إلا طلب ؛و{وجه الله}: المراد به الوجه الحقيقي ؛لأن من دخل الجنة نظر إلى وجه الله .
قوله تعالى:{وما تنفقوا من خير يوف إليكم}؛{ما} هذه أيضاً شرطية بدليل جزم الجواب:{يوف}؛فإنه مجزوم بحذف حرف العلة ؛وهو الألف ؛يعني: أيَّ خير تنفقونه من الأعيان ،والمنافع قليلاً كان أو كثيراً يوف إليكم ؛أي: تعطَونه وافياً من غير نقص ؛بل الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة .
قوله تعالى:{وأنتم لا تظلمون} ،أي: لا تنقصون شيئاً منه .
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: أن هداية الخلق لا تلزم الرسل ؛ونعنى بذلك هداية التوفيق ؛أما هداية الدلالة فهي لازمة عليهم ؛لقوله تعالى:{يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته} [ المائدة: 67] .
2 - ومنها: أن الإنسان إذا بلغ شريعة الله برئت ذمته ؛لقوله تعالى:{ليس عليك هداهم}؛ولو كانت ذمته لا تبرأ لكان ملزماً بأن يهتدوا .
3 - ومنها: إثبات أن جميع الأمور دقيقها ،وجليلها بيد الله ؛لقوله تعالى:{ولكن الله يهدي من يشاء} .
4 - ومنها: الرد على القدرية ؛لقوله تعالى:{ولكن الله يهدي من يشاء}؛لأنهم يقولون: «إن العبد مستقل بعمله ،ولا تعلق لمشيئة الله سبحانه وتعالى فيه » .
5 - ومنها: إثبات المشيئة لله تعالى ؛لقوله تعالى:{من يشاء} .
6 - ومنها: أن هداية الخلق بمشيئة الله ؛ولكن هذه المشيئة تابعة للحكمة ؛فمن كان أهلاً لها هداه الله ؛لقوله تعالى:{الله أعلم حيث يجعل رسالته} [ الأنعام: 124]؛ومن لم يكن أهلاً للهداية لم يهده ؛لقوله تعالى:{فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} [ الصف: 5] ،ولقوله تعالى:{إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون * ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم} [ يونس: 96 ،97] .
7 - ومنها: أن أعمال الإنسان لا تنصرف إلى غيره ؛لقوله تعالى:{وما تنفقوا من خير فلأنفسكم}؛وليس في الآية دليل على منع أن يتصدق الإنسان بعمله على غيره ؛ولكنها تبين أن ما عمله الإنسان فهو حق له ؛ولهذا جاءت السنة صريحة بجواز الصدقة عن الميت ،كما ثبت ذلك في صحيح البخاري في قصة الرجل الذي قال: «يا رسول الله ،إن أمي أفتلتت نفسها وأُراها لو تكلمت تصدقت أفأتصدق عنها ؟قال: نعم تصدق عنها »{[518]} ؛وكذلك حديث سعد بن عبادة حين تصدق ببستانه لأمه{[519]} ؛إذاً فالآية لا تدل على منع الصدقة عن الغير ؛وإنما تدل على أن ما عمله الإنسان لا يصرف إلى غيره .
8 - ومن فوائد الآية: أن الإنفاق الذي لا يُبتغى به وجه الله لا ينفع العبد ؛لقوله تعالى:{وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله} .
9 - ومنها: التنبيه على الإخلاص: أن يكون الإنسان مخلصاً لله عز وجل في كل عمله ؛حتى في الإنفاق وبذل المال ينبغي له أن يكون مخلصاً فيه ؛لقوله تعالى:{وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله}؛فالإنفاق قد يحمل عليه محبة الظهور ،ومحبة الثناء ،وأن يقال: فلان كريم ،وأن تتجه الأنظار إليه ؛ولكن كل هذا لا ينفع ؛إنما ينفع ما ابتغي به وجه الله .
10 - ومنها: إثبات وجه الله عز وجل ؛لقوله تعالى:{إلا ابتغاء وجه الله}؛وأهل السنة والجماعة يقولون: إن لله سبحانه وتعالى وجهاً حقيقياً موصوفاً بالجلال والإكرام لا يماثل أوجه المخلوقين ؛وأنه من الصفات الذاتية الخبرية ؛و«الصفات الذاتية الخبرية » هي التي لم يزل ،ولا يزال متصفاً بها ،ونظير مسماها أبعاض وأجزاء لنا .
وأهل التعطيل ينكرون أن يكون لله وجه حقيقي ،ويقولون: المراد ب «الوجه » الثواب ،أو الجهة ،أو نحو ذلك ؛وهذا تحريف مخالف لظاهر اللفظ ،ولإجماع السلف ؛ولأن الثواب لا يوصف بالجلال والإكرام ؛والله سبحانه وتعالى وصف وجهه بالجلال والإكرام ،فقال تعالى:{ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام} [ الرحمن: 27] .
11 - ومنها: الإشارة إلى نظر وجه الله ؛لقوله تعالى:{إلا ابتغاء وجه الله}؛وهذا - أعني النظر إلى وجه الله - ثابت بالكتاب ،والسنة ،وإجماع السلف ؛لقوله تعالى:{وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة} [ القيامة: 22 ،23] ،وقوله تعالى:{للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} [ يونس: 26]؛فقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم «الزيادة » بأنها النظر إلى وجه الله{[520]} ...إلى آيات أخرى ؛وأما السنة فقد تواترت بذلك ؛ومنها قوله ( ص ): «إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته »{[521]} ؛وأما إجماع السلف فقد نقله غير واحد من أهل العلم .
12 - ومن فوائد الآية: أن الإنسان لا يُنْقص من عمله شيئاً ؛لقوله تعالى:{وما تنفقوا من خير يوف إليكم} .
13 - ومنها: الإشارة إلى أن الإنفاق من الحرام لا يقبل ؛وذلك لقوله تعالى:{من خير}؛ووجهه: أن الحرام ليس بخير ؛بل هو شر .
14 - ومنها: نفي الظلم في جزاء الله عز وجل ؛لقوله تعالى:{وأنتم لا تظلمون}؛وهذا يستلزم كمال عدله ؛فإن الله عز وجل كلما نفى عن نفسه شيئاً من الصفات فإنه مستلزم لكمال ضده .