هذه الآية تتضمن الحض على الإنفاق ، والحث عليه ، بأبلغ الألفاظ وأحسن المعاني .
فإنها اشتملت على بيان الداعي إلى البخل ، والداعي إلى البذل ، والإنفاق ، وبيان ما يدعو إليه داعي البخل ، وما يدعو إليه داعي الإنفاق ، وبيان ما يدعو به داعي
الأمرين .
فأخبر سبحانه أن الذي يدعوهم إلى البخل والشح هو الشيطان وأخبر أن دعوته هي بما يعدهم به ويخوفهم من الفقر إن أنفقوا أموالهم .
وهذا هو الداعي الغالب على الخلق . فإنه أحدهم يهم بالصدقة والبذل فيجد في قلبه داعيا يقول له:متى أخرجت هذا دعتك الحاجة إليه . وافتقرت إليه بعد إخراجه ، وإمساكه خير لك ، حتى لا تبقى مثل الفقير ، فغناك خير لك من غناه . فإذا صور له هذه الصورة أمره بالفحشاء وهي البخل الذي هو من أقبح الفواحش .
وهذا إجماع من المفسرين:أن الفحشاء هنا:البخل ، فهذا وعده وهذا أمره .
وهو الكاذب في وعده ، الغار الفاجر في أمره . فالمستجيب لدعوته مغرور مخدوع مغبون . فإنه يدلي من يدعوه بغروره . ثم يورده شر الموارد . كما قيل:
دلاهم بغرور ، ثم أوردهم *** إن الخبيث لمن والاه غرار
هذا وإن وعده له الفقر ليس شفقة عليه ، ولا نصيحة له ، كما ينصح الرجل أخاه ، ولا محبة في بقائه غنيا ، بل لا شيء أحب إليه من فقره وحاجته . وإنما وعده له بالفقر وأمره إياه بالبخل ليسيء ظنه بربه ، ويترك ما يحبه من الإنفاق لوجهه ، فيستوجب منه الحرمان .
وأما الله سبحانه فإنه يعد عبده مغفرة منه لذنوبه ، وفضلا بأن يخلف عليه أكثر مما أنفق وأضعافه إما في الدنيا أو في الدنيا والآخرة .
فهذا وعد الله ، وذاك وعد الشيطان ، فلينظر البخيل والمنفق أي الوعدين هو أوثق ؟ وإلى أيهما يطمئن قلبه وتسكن نفسه ؟
والله يوفق من يشاء ويخذل من يشاء . وهو الواسع العليم .
وتأمل كيف ختم هذه الآية بهذين الاسمين{ والله واسع عليم} فإنه واسع العطاء ، عليم بمن يستحق فضله ومن يستحق عدله ، فيعطي هذا بفضله ، ويمنع هذا بعدله . وهو بكل شيء عليم .
فتأمل هذه الآيات ولا تستطل بسط الكلام فيها فإن لها شأنا لا يعقله إلا من عقل عن الله خطابه وفهم مراده{ وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون} [ العنكبوت:43] .
وتأمل ختم هذه السورة ، التي هي سنام القرآن بأحكام الأموال وأقسام الأغنياء وأحوالهم . وكيف قسمهم إلى ثلاثة أقسام:
[ القسم الأول] ( محسن ):وهم المتصدقون فذكر جزاءهم ومضاعفته ، وما لهم في قرض أموالهم للمليء الوفي سبحانه ، ثم حذرهم مما يبطل ثواب صدقاتهم ويحرقها بعد استوائها وكمالها من المن والأذى ، وحذرهم مما يمنع ترتب أثرها عليها ابتداء من الرياء . ثم أمرهم أن يتقربوا إليه بأطيبها ، ولا يتيمموا أردأها وخبيثها .
ثم حذرهم من الاستجابة لداعي البخل والفحش ، وأخبر أن استجابتهم لدعوته وثقتهم بوعده أولى بهم .