{وعاد} كذلك أيضاً عاد أرسل الله إليهم هوداً فكذبوه فأهلكهم الله - عز وجل - بالريح العقيم{ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم} وكانوا يفتخرون بقوتهم ويقولون:{من أشد منا قوةً} .فأراهم الله - عز وجل - قوته وأهلكهم بالريح اللطيفة التي لا يرى لها جسم ،ومع ذلك دمرتهم تدميراً ،{وفرعون} الذي أرسل الله إليه نبيه موسى عليه السلام ،وفرعون كان معروفاً بالجبروت والعناد والاستكبار ،حتى إنه استخف قومه وقال لهم إنه رب{فقال أنا ربكم الأَعلى} فأطاعوه فجاءهم موسى عليه الصلاة والسلام بالآيات البينات ،لكنهم كذبوا ،وأراهم الله تعالى آية كانوا يفتخرون بما يضاد ما جاء به موسى وهو السحر ،فجمعوا لموسى عليه الصلاة والسلام كل السحرة في مصر ،واجتمعوا وألقوا الحبال والعصي ،وألقوا عليها السحر فصار الناس يشاهدون هذه الحبال والعصي وكأنها حيات وثعابين ،ورهب الناس كما قال الله تعالى:{واسترهبوهم وجاءو بسحر عظيم} .حتى إن موسى عليه الصلاة والسلام أوجس في نفسه خيفة ؛لأنه شاهد أن كل الجو حوله ثعابين تريد أن تلتهم ما تقابله ،فأوحى الله إلى موسى أن ألقِ عصاك ،فألقى العصا فالتهمت جميع هذه الحيات ،وهذا من آيات الله ،إذ إن الحية كما هو معروف ليست بذات الكبر لكي تأكل هذا ،وكان هذا يذهب بخاراً ،إذا أكلت هذه الحبال والعصي ،فالسحرة رأوا أمراً أدهشهم ولم يملكوا أنفسهم إلا أن يؤمنوا مع ذلك إيماناً تامًّا{وألقى السحرة ساجدين} ،وتأمل قوله تعالى:{وألقى السحرة ساجدين} ولم يقل سجدوا ،كأن شيئاً اضطرهم إلى السجود ،كأنهم سجدوا بغير اختيار لقوة ما رأوا من الآية العظيمة ،ومع هذه الآية البينة الواضحة على صدق موسى عليه الصلاة والسلام لم يؤمن فرعون بل قال:{إن هؤلآء لشرذمة قليلون وإنهم لنا لغآئظون} ،فهمّ بأن يهجم على موسى ومن معه من المؤمنين ،فأمر الله موسى أن يخرج من مصر إلى جهة المشرق نحو البحر الأحمر ،فامتثل أمر الله ،وخرج من مصر إلى هذه الناحية ،فتبعهم فرعون بجنوده على حنق ،يريد أن يقضي على موسى وقومه ،فلما وصلوا إلى البحر قال قوم موسى له:{إنا لمدركون} .{قال كلا} يعني لن ندرك{إن معى ربي سيهدين} فأوحى الله إليه أن يضرب بعصاه البحر ،البحر الذي عرضه مسافات طويلة فضرب البحر فانفلق البحر اثني عشر طريقاً ،وصارت قطع الماء كأنها جبال ،وصارت هذه الطرق التي كانت رياً من الماء ،وطيناً زلقاً ،صارت طريقاً يبساً بإذن الله في لحظة ،فدخل موسى وقومه عابرين من أفريقيا إلى آسيا من طريق البحر ،فلما تكاملوا داخلين وخارجين للناحية الشرقية دخل فرعون وقومه ،فلما تكاملوا للدخول أمر الله البحر فانطبق عليهم ،فلما أدرك فرعون الغرق أعلن فقال:{آمنت أنه لآ إله إلا الذي آمنت به} .وتأمل أنه لم يقل: آمنت بالله ،بل قال: آمنت بالذي آمنت به بنو إسرائيل ،لماذا ؟إذلالاً لنفسه ،حيث كان ينكر على بني إسرائيل ويهاجمهم ،فأصبح عند الموت يقر بأنه تبع لهم ،وأنه يمشي خلفهم ،ولكن ماذا قيل له:{ءالئن} تؤمن بالذي آمنت به بنو إسرائيل وأنك من المسلمين{وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين} .فلم تقبل توبته ،لأنه لم يتب إلا حين حضره الموت ،والتوبة بعد حضور الموت لا تنفع ،كما قال الله تعالى:{وليست التوبة للذين يعملون السيئت حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الأَن} لا تنفع التوبة إذا حضر الموت ،نسأل الله تعالى أن يمن علينا بتوبة قبل الموت ،ولكن الله قال:{فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك ءايةً} .ننجيك ببدنك لا بروحك ،الروح فارقت البدن ،لكن البدن بقي طافياً على الماء . وبيَّن الله الحكمة{لتكون لمن خلفك ءايةً} لأن بني إسرائيل قد أرعبهم فرعون فلو لم يتبين لهم أنه غرق بنفسه لكانت أوهامهم تذهب كل مذهب ،لعله لم يغرق ،لعله يخرج إلينا من ناحية أخرى ،فأقر الله أعين بني إسرائيل بأن شاهدوا جسمه غارقاً في الماء ،{لتكون لمن خلفك ءايةً} .
{وإخون لوط} إخوان لوط يعني قوم لوط ،أرسل إليهم لوط عليه الصلاة والسلام ،لأنهم كانوا - والعياذ بالله - يأتون الذكران ،ويدعون النساء ،أي أن الواحد يجامع الذكر ويدع النساء ،كما قال لهم عليه الصلاة والسلام:{أتأتون الذكران من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون} .دعاهم إلى الله - عز وجل - وأنذرهم وخوَّفهم من هذا الفعل الرذيل ،ولكنهم أصروا عليه ،فأرسل الله عليهم حجارة من طين مسومة ،يعني معلَّمة ،كل حجارة عليها علم ،يعني علامة على من تنزل عليه وتصعقه ،وهذه الخصلة الرذيلة من أقبح الخصال ،ولهذا كان حدها في الشريعة الإسلامية القتل بكل حال ،يعني أنها أعظم من الزنا ،فإذا كان الزاني لم يتزوج من قبل فإنه يجلد مائة جلدة ،ويغرَّب عن البلد سنة كاملة ،وإن كان محصناً وهو الذي قد تزوج وجامع زوجته فإنه يرجم حتى يموت ،أما اللواط فإن حده القتل بكل حال ،يعني لو تلوط شخص بالغ بآخر بالغ باختيار منهما فإنه يجب أن يقتل الفاعل والمفعول به ،لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به ».قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: إن الصحابة أجمعوا على قتله ،لكن اختلفوا كيف يُقتل ؟فقال بعضهم: إنه يحرق بالنار لعظم جرمه ،والعياذ بالله ،وقال آخرون: إنه يرجم بالحجارة ،وقال آخرون: إنه يلقى من أعلى مكان في البلد ويتبع بالحجارة ،والشاهد أن ابن تيمية رحمه الله نقل إجماع الصحابة على قتله ،وإجماع الصحابة حجة فيكون مؤيداً للحديث: «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به » ولأن هذه الفاحشة الكبرى - والعياذ بالله - فاحشة مفسدة للمجتمع ،لأنه يصبح المجتمع الرجالي مجتمعاً نسائياً ،وهو أيضاً لا يمكن التحرز منه ،فالزنا يمكن التحرز منه إذا رؤيت امرأة مع رجل في محل ريبة فإنه يمكن مناقشتهما ،لكن إذا رؤي ذكر مع ذكر كيف يمكن أن نناقشهما ،والأصل أن الرجل مع الرجل يجتمع ولا يتفرق ،لهذا كان القول بوجوب قتلهما هو الحق ،أما قوم لوط فإن الله تعالى أرسل عليهم حجارة من سجين ،مسومة فدمرهم تدميراً ،حتى جعل عالي قريتهم سافلها .