{هو الذي خلق السماوات والأَرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأَرض} خلق السماوات والأرض أي: أوجدها - عز وجل - بكل نظام وتقدير ،والسماوات سبع والأرضون سبع ،والأرض سابقة على السماء ،لأن الله تعالى قال في سورة فصلت لما ذكر خلق الأرض قال:{ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأَرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتآ أتينا طآئعين} ،لكن الله يبدأ بالسماوات لأنها أشرف من الأرض وأعلى من الأرض ،والسماوات بينها مسافة بعيدة جداً جداً ،وهذا يلزم أن يكون أصغر السماوات سماء الدنيا ويليها الثانية والثالثة ،كل واحدة أوسع من الأخرى سعة عظيمة ،وهي طباق متطابقة بعضها فوق بعض ،وفي حديث المعراج أن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم كلما صعد إلى سماء استفتح ففتح له،والأرض جعلها تعالى في القرآن بصيغة الإفراد ،لكن الله تعالى أشار إلى أنها متعددة في قوله:{الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأَرض مثلهن} أي: مثلهن في العدد لا في الصفة ،لأن التماثل في الصفة بين الأرض والسماء بعيد جداً ،لكن مثلهن في العدد ،وصرحت بذلك السنة في قول النبي صلى الله عليه وسلم «من اقتطع شبراً من الأرض ظلماً طوقه الله يوم القيامة به من سبع أراضين »وخلقها الله عزوجل في ستة أيام ،والأيام أطلقها الله - عز وجل - ولم يبين أن اليوم خمسين ألف سنة ،أو أقل ،أو أكثر ،وإذا أطلق يحمل على المعروف المعهود وهي أيامنا هذه ،وقد جاء في الحديث أنها الأحد ،والاثنين ،والثلاثاء ،والأربعاء ،والخميس ،والجمعة ، فالجمعة منتهى خلق السماوات والأرض ومبتدئه الأحد ،والسبت ليس فيه خلق لا ابتداء ولا انتهاء .
فإذا قال قائل: أليس الله قادراً على أن يخلقها في لحظة ؟
فالجواب: بلى ،لأن أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن .فيكون ،وإنما خلقها في ستة أيام - والله أعلم - لحكمتين: الحكمة الأولى: أن هذه المخلوقات يترتب بعضها على بعض ،فرتب الله تعالى بعضها على بعض حتى أحكمها ،وانتهى منها في ستة أيام .الحكمة الثانية: أن الله علّم عباده التؤدة والتأني ،وأن الأهم إحكام الشيء لا الفراغ منه ،حتى يتأنى الإنسان فيما يصنعه ،فعلم الله سبحانه عباده التأني في الأمور التي هم قادرون عليها ،وكلا الأمرين وجيه ،وقد تكون هناك حكم أخرى لا نعلمها ،ومع هذا لا نجزم به ونقول: الله أعلم{ثم استوى على العرش} ،استوى عليه يعني على وجه يليق بجلاله ،ولا يمكن أن نمثله بخلقه لأن الله ليس كمثله شيء ،والعرش مخلوق عظيم لا يعلم قدره إلا الذي خلقه - عز وجل - ،وقد جاء في الحديث: أن السماوات السبع ،والأرضين السبع في الكرسي كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض ،الحلقة حلقة الدرع المكون من حلق من الحديد ،فالحلقة من الحديد من الدرع تكون بالنسبة للفلاة لا شيء ،فلاة من الأرض واسعة ضاع فيها حلقة من حلق الدرع ماذا تكون نسبتها وماذا تشغل من الأرض ؟!لا شيء ،قال صلى الله عليه وسلم: «ما السماوات السبع والأرضين السبع في الكرسي إلا كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض ،وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على هذه الحلقة »إذن لا يعلم قدره إلا الله - عز وجل - وليس لنا أن نسأل: من أين مادة الكرسي ؟من ذهب ،من فضة ،من لؤلؤ ؟ليس لنا الحق في أن نتكلم في هذا .هو عرش عظيم كما وصفه الله{رب العرش العظيم}{ذو العرش المجيد} ،عرش عظيم جداً جداً ،لا يعلم قدره إلا الله ،استوى الله عليه لكمال سلطانه - جل وعلا - و( ثم ) في قوله:{ثم استوى على العرش} تدل على الترتيب ،أي أن خلق السماوات والأرض سابق على الاستواء على العرش ،ومعنى{استوى} أي: على ؛لأن الاستواء في اللغة العربية إذا تعد ب ( على ) كان معناها العلو ،مثاله قول الله تبارك وتعالى:{وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين} ،ومن ذلك قوله تعالى عن نوح:{فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظلمين} .
فقوله:{استويت أنت ومن معك على الفلك} يعني علوت عليه ،إذن{استوى على العرش} يعني على العرش ،وإذا رأيت من يقول استوى على العرش أي استولى على العرش ،فقد كذب على الله - عز وجل - لأن الله تعالى نزل هذا القرآن العظيم باللغة العربية ،واللغة العربية تدل على أن استوى إذا تعدت بعلى فهي بمعنى العلو لا غيره ،فيكون الذي يفسرها باستولى كاذب على الله - عز وجل - جانياً على نصوص الكتاب ،محرفاً لها ،وجنايته عليها من وجهين:
الوجه الأول: صرفها عن ظاهرها .
والوجه الثاني: إحداث معنى لا يدل عليه الظاهر ،وهذا قد يوجد كثيراً في كتب الأشاعرة ،سواء كانوا مفسرين أو غير مفسرين لكنهم بهذا والله والله والله قد ضلوا ضلالاً مبيناً ،نسأل الله العافية ،فمن الذي استولى على العرش حين خلق السماوات والأرض ؟!إذا كان الله لم يستولِ عليه إلا بعد خلق السماوات والأرض فهو لمن من قبل ؟!نعم يلزمهم أن يقولوا لغير الله ،وإلا فقد أخطأوا يعني تبين خطأهم وهم مخطئون والحمد لله ،{يعلم ما يلج في الأَرض} أي: ما يدخل فيها من جثث الموتى ،ومن الحبوب التي تنبت بإذن الله ،ومن المياه التي يسلكها الله ينابيع في الأرض ثم يخرجها ،وغير ذلك من الحشرات وغيرها ،فكل ما يلج في الأرض يعلمه الله .
{وما يخرج منها} أي: من النبات والمياه والمعادن وغيرها ،{وما ينزل من السماء} أي: من الملائكة والأمطار والشرائع وغير ذلك ،{وما يعرج فيها}أي: إليها ،لكن جاءت بلفظ{فيها} بدل إليها لنستفيد فائدتين:
الفائدة الأولى: العروج يعني الصعود .
الفائدة الثانية: الدخول ،لأن{في} يناسبها من الأفعال الدخول ،تقول: دخل في المكان ،أما عرج ويعرج فالذي يناسبها إلى ،لكن الله - عز وجل - عدل عن قوله ( يعرج إليها ) إلى قوله{يعرج فيها} ليفيد الصعود ،والدخول .
وضمن يعرج معنى يدخل .والتضمين موجود في القرآن الكريم ،وفي اللغة العربية قال الله تعالى:{عيناً يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيراً} المناسب ليشرب ( من ) كما قال تعالى:{يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون} يعني منه ،{فشربوا منه إلا قليلاً منهم} وهنا قال:{يشرب بها} قال العلماء: الحكمة أن يشرب هنا ضمنت معنى يروى ،أي: يروى بها .ومعلوم أنك إذا قلت: يروى بها .فقد تضمن معنى يشرب ،وزيادة .والتضمين فن مهم في باب البلاغة ،ينبغي لطالب العلم أن يدرسه ويحققه ،حتى يستفيد إذا اختلفت الحروف مع عواملها ،{يعرج فيها} من الأشياء ما يصل إلى السماء الدنيا ويقف ،ومنها ما يعرج في السماء الدنيا حتى يصل إلى الله - عزوجل -{وهو معكم} هو الضمير يعود إلى الله - عز وجل -{معكم} أي: مصاحب لكم ،كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم أنت الصاحب في السفر ،والخليفة في الأهل »لكن هذه الصحبة ليست صحبة مكان .بمعنى أننا إذا كنا في مكان كان الله معنا .حاشا وكلا ،لا يمكن هذا ،وكيف يتصور عاقل أن الله معنا في مكاننا ،وكرسيه وسع السماوات والأرض ؟!هذا مستحيل ،والكرسي موضع القدمين ،كما جاء عن ابن عباس رضي الله عنه،فإذا كان كذلك هل يعقل أن رب السماوات والأرض الذي يوم القيامة تكون السماوات مطويات بيمينه ،والأرض جميعاً قبضته هل يمكن أن يكون معنا في أماكننا الضيقة والواسعة ؟لا يمكن ،إذا{معكم} أي: مصاحب لكم ،والمصاحب قد يكون بعيد عنك ،يقول العرب في أسلوبهم: ما زلنا نسير والقمر معنا ،مازلنا نسير والقطب معنا .ما زلنا نسير والجبل الفلاني معنا ،وليس معهم في مكانهم .ومعلوم أن القمر في السماء ،والنجم في السماء ،والجبل قد يكون بينك وبينه مسافة أيام ،ومع ذلك فالعرب تطلق عليه المعية مع البعد في المكان ،وكوننا نؤمن بأن الله معنا إذن هوعالم بنا ،سميع لأقوالنا ،بصير بأفعالنا ،له القدرة علينا والسلطان ،ومدبر لنا بكل معنى تقتضيه المعية ،واعلم أن من الضلال من يقول: إن الله معنا في أمكنتنا ،نسأل الله العافية ،وينكرون أن الله في السماء عالياً فأتوا داهيتين عظيمتين ،الأولى: إنكار علو الله .والثانية: اعتقاد أنه في الأرض .سبحان الله !هل يعقل أن يعتقد عاقل فضلاً عن مؤمن أنه إذا كان في المرحاض كان الله معه ؟أعوذ بالله ،الذي يعتقد هذا أشهد بالله أنه كافر ،لأن أعظم استهزاء بالله وأعظم حط من قدر الله هو هذا ،ثم نقول: إذا كان الله - كما يقولون - في كل مكان يعني أنه في الحجرة ،وفي السوق ،وفي المسجد ،ثم من الذي يكون مع أناس في الحجرة ،وأناس في الشارع ؟أهما إلهان ؟لا يمكن أن يقولوا إنه متعدد ،هل هو متجزء ؟إذن بطل أن يكون معنا بذاته في أمكنتنا لأنه إما أن يكون متعدداً ،وإما أن يكون متجزءاً ،وكلاهماباطل ،قررت هذا لأنه يوجد من يعتقد أن الله في كل مكان فنقول: المعية هي المصاحبة ،ولا يلزم من المصاحبة المقارة في المكان ،وكيف يمكن أن يكون الله معك في مكانك وهو سبحانه وتعالى وسع كرسيه السماوات والأرض ،ولكن هؤلاء الذين يعتقدون أنه في كل مكان ما قدروا الله حق قدره ،ولا عظموه حق تعظيمه ،ولا عرفوا عظمته وجلاله قال الله تعالى:{وما قدروا الله حق قدره والأَرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويت بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون} فكيف يعتقد أن الله معنا في مكاننا ،فيجب على الإنسان أن يعرف نعمة الله عليه بكونه يؤمن بالقرآن الكريم ظاهره معظماً لله حق تعظيمه{أين ما كنتم} أي: في أي مكان ،لأن أين ظرف مكان{والله بما تعملون بصير} أي: بما تعملون من الأعمال كلها بصير ،والبصر هنا يشمل بصر الرؤية قال النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه: «حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه »ويشمل بصر العلم ،فمن المعلوم أن أعمالنا قد تكون مرئية الحركة ،وقد تكون مسموعة كالأقوال ،فرؤية المسموع العلم .