{لمن شاء منكم أن يستقيم}{لمن شاء} هذه الجملة بدل مما قبلها لكنها بإعادة العامل وهي ( إلا ) أي: «إلا ذكر للعالمين لمن شاء منكم أن يستقيم » وأما من لا يشاء الاستقامة فإنه لا يتذكر بهذا القرآن ولا ينتفع به كما قال تعالى:{إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد} [ ق: 37] .فالإنسان الذي لا يريد الاستقامة لا يمكن أن ينتفع بهذا القرآن ،ولكن إذا قال قائل: هل مشيئة الإنسان باختياره ؟
نقول: نعم مشيئة الإنسان باختياره .فالله عز وجل جعل للإنسان اختياراً وإرادة ،إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل ؛لأنه لو لم يكن كذلك لم تقم الحجة على الخلق الذين أرسلت إليه الرسل بإرسال الرسل ،فما نفعله هو باختيارنا وإرادتنا ،ولولا ذلك ما كان لإرسال الرسل حجة علينا إذ أننا نستطيع أن نقول نحن لا نقدر على الاختيار ،فالإنسان لا شك فاعل باختياره ،وكل إنسان يعرف أنه إذا أراد أن يذهب إلى مكة فهو باختياره ،وإذا أراد أن يذهب إلى المدينة فهو باختياره ،وإذا أراد أن يذهب إلى بيت المقدس فهو باختياره وإذا أراد أن يذهب إلى الرياض فهو باختياره ،أو إلى أي شيء أراده فهو باختياره لا يرى أن أحداً أجبره عليه ،ولا يشعر أن أحداً أجبره على ذلك ،كذلك أيضاً من أراد أن يقوم بطاعة الله فهو باختياره ومن أراد أن يعصي الله فهو باختياره ،فللإنسان مشيئة ولكن نعلم علم اليقين أنه ما شاء شيئاً إلا وقد شاءه الله من قبل ،ولهذا قال:{وما تشاؤون إلا أن يشاء الله} ما نشاء شيئاً إلا بعد أن يكون الله قد شاءه ،فإذا شئنا الشيء علمنا أن الله قد شاءه ،ولولا أن الله شاءه ما شئناه .كما قال تعالى:{ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا} [ البقرة: 253] .فنحن إذا عملنا الشيء نعمله بمشيئتنا واختيارنا ،ولكن نعلم أن هذه المشيئة والاختيار كانت بعد مشيئة الله عز وجل ،ولو شاء الله ما فعلنا .
فإن قال قائل: إذن لنا حجة في المعصية لأننا ما شئناها إلا بعد أن شاءها الله .
فالجواب: أنه لا حجة لنا لأننا لم نعلم أن الله شاءها إلا بعد أن فعلناها ،وفعلنا إياها باختيارنا ،ولهذا لا يمكن أن نقول إن الله شاء كذا إلا بعد أن يقع ،فإذا وقع فبأي شيء وقع ؟وقع بإرادتنا ومشيئتنا ،لهذا لا يتجه أن يكون للعاصي حجة على الله عز وجل وقد أبطل الله هذه الحجة في قوله:{سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذّب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا} .[ الأنعام: 148] .فلولا أنه لا حجة لهم ما ذاقوا بأس الله ،لسَلِموا من بأس الله ،ولكنه لا حجة لهم فلهذا ذاقوا بأس الله ،وكلنا نعلم أن الإنسان لو ذُكر له أن بلداً آمناً مطمئناً ،يأتيه رزقه رغداً من كل مكان ،فيه من المتاجر والمكاسب ما لا يوجد في البلاد الأخرى ،وأن بلداً آخر بلدٌ خائف غير مستقر ،مضطرب في الاقتصاد ،مضطرب في الخوف والأمن ،فإلى أيهما يذهب ؟بالتأكيد سيذهب إلى الأول ولا شك ،ولا يرى أن أحداً أجبره أن يذهب إلى الأول ،يرى أنه ذهب إلى الأول بمحض إرادته ،وهكذا الان طريق الخير وطريق الشر ،فالله بيّن لنا: هذه طريق جهنم وهذه طريق الجنة ،وبيّن لنا ما في الجنة من النعيم ،وما في النار من العذاب .فأيهما نسلك ؟بالقياس الواضح الجلي أننا سنسلك طريق الجنة لا شك ،كما أننا في المثال الذي قبل نسلك طريق البلد الامن الذي يأتيه رزقه رغداً من كل مكان .لو أننا سلكنا طريق النار فإنه سيكون علينا العتب والتوبيخ واللوم ،ويُنادى علينا بالسفه ،كما لو سلكنا في المثال الأول طريق البلد المخوف المتزعزع الذي ليس فيه استقرار ،فإن كل أحد يلومنا ويوبخنا ،إذاً ففي قوله:{لمن شاء أن يستقيم} تقرير لكون الإنسان يفعل الشيء بمشيئته واختياره ،ولكن بعد أن يفعل الشيء ويشاء الشيء نعلم أن الله قد شاءه من قبل ولو شاء الله ما فعله ،وكثيراً ما يعزم الإنسان على شيء يتجه بعد العزيمة على هذا الشيء وفي لحظة ما يجد نفسه منصرفاً عنه ،أو يجد نفسه مصروفاً عنه ؛لأن الله لم يشأه ،كثيراً ما نريد أن نذهب مثلاً إلى المسجد لنستمع إلى محاضرة ،وإذا بنا ننصرف بسبب أو بغير سبب ،أحياناً بسبب بحيث نتذكر أن لنا شغلاً فنرجع ،وأحياناً نرجع بدون سبب لا ندري إلا وقد صرف الله تعالى همتنا عن ذلك فرجعنا .ولهذا قيل لأعرابي بم عرفت ربك ؟قال: بنقض العزائم وصرف الهمم .( بنقض العزائم ) يعني الإنسان يعزم على الشيء عزماً مؤكداً وإذا به ينتقض !!من نقض عزيمته ،لا يشعر ،ما يشعر أن هناك مرجحاً أوجب أن يعدل عن العزيمة الأولى بل بمحض إرادة الله ( صرف الهمم ) يهم الإنسان بالشيء ويتجه إليه تماماً وإذا به يجد نفسه منصرفاً عنه سواء كان الصارف مانعاً حسيًّا أو كان الصارف مجرد اختيار ..اختار الإنسان أن ينصرف ،كل هذا من الله عز وجل .فالحاصل أن الله يقول:{لمن شاء منكم أن يستقيم} والاستقامة هي الاعتدال ،ولا عدل أقوم من عدل الله عز وجل في شريعته ،في الشرائع السابقة كانت الشرائع تناسب حال الأمم زماناً ومكاناً وحالاً ،وبعد بعثة الرسول عليه الصلاة والسلام ،كانت شريعته تناسب الأمة التي بُعث النبي صلى الله عليه وسلّم إليها من أول بعثته إلى نهاية الدنيا .ولهذا كان من العبارات المعروفة «أن الدين الإسلامي صالح لكل زمان ومكان وحال » .لو تمسك الناس به لأصلح الله الخلق .انظر مثلاً الإنسان يصلي أولاً قائماً ،فإن عجز فقاعداً ،فإن عجز فعلى جنب ،إذن الشريعة تتطور بحسب حال الشخص ؛لأن الدين صالح لكل زمان ومكان .يجب على المحدث أن يتطهر بالماء ،فإن تعذر استعمال الماء لعجز أو عدم .عدل إلى التيمم ،فإن لم يوجد ولا تراب ،أو كان عاجزاً عن استعمال التراب فإنه يصلي بلا شيء ،لا بطهارة ماء ولا بطهارة تيمم ،كل هذا لأن شريعة الله عز وجل كلها مبنية على العدل ،ليس فيها جور ،ليس فيها ظلم ،ليس فيها حرج ،ليس فيها مشقة ،ولهذا قال:{أن يستقيم} وضد الاستقامة انحرافان: انحراف إلى جانب الإفراط والغلو ،وانحراف إلى جانب التفريط والتقصير ،ولهذا كان الناس في دين الله عز وجل ثلاثة أشكال: طرفان ووسط ،طرف غالٍ مبالغ متنطع متعنت ،وطرف آخر مفرّط مقصّر مهمل .الثالث: وسط بين الإفراط والتفريط ،مستقيم على دين الله هذا هو الذي يُحمَد .أما الأول الغالي ،والثاني الجافي فكلاهما هالك ..هالك بحسب ما عنده من الغلو ،أو من التقصير ،وقد نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن الغلو والإفراط والتعنت والتنطع حتى إنه قال: «هلك المتنطعون ،هلك المتنطعون ،هلك المتنطعون » ،لأن التنطع فيه إشقاق على النفس وفيه خروج عن دين الله عز وجل ،كما أنه ذمّ المفرطين المهملين وقال في وصف المنافقين:{وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى} [ النساء: 142] .فدين الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه ،ولهذا قال هنا:{لمن شاء منكم أن يستقيم} لا يميل يميناً ولا شمالاً ،يكون سيره سير استقامة على دين الله عز وجل والاستقامة كما تكون في معاملة الخالق عز وجل وهي العبادة تكون أيضاً في معاملة المخلوق ،فكن مع الناس بين طرفين ،بين طرفي الشدة والغلظة والعبوس ،وطرف التراخي والتهاون وبذل النفس وانحطاط الرتبة ،كن حازماً من وجه ،ولين من وجه ،ولهذا قال الفقهاءرحمهم اللهفي القاضي: «ينبغي أن يكون ليناً من غير ضعف ،قويًّا من غير عنف » .فلا يكون لينه يشطح به إلى الضعف ،ولا قوته إلى العنف ،يكون بين ذلك ،ليناً من غير ضعف ،قويًّا من غير عنف حتى تستقيم الأمور ،فبعض الناس مثلاً يعامل الناس دائماً بالعبوس والشدة وإشعار نفسه بأنه فوق الناس وأن الناس تحته ،وهذا خطأ ،ومن الناس من يحط قدر نفسه ويتواضع إلى حد التهاون وعدم المبالاة بحيث يبقى بين الناس ولا حرمة له ،وهذا أيضاً خطأ ،فالواجب أن يكون الإنسان بين هذا وبين هذا كما هو هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم ،فإنه عليه الصلاة والسلام يشتدّ في موضع الشدة ،ويلين في موضع اللين .فيجمع الإنسان هنا بين الحزم والعزم ،واللين والعطف والرحمة{وما تشاؤون إلا أن يشاء الله} يعني لا يمكن أن تشاؤا شيئاً إلا وقد شاءه الله من قبل ،فمشيئة الإنسان ما كانت إلا بعد مشيئة الله عز جل ،لو شاء الله لم يشأ ،ولو شاء الله أن لا يكون الشيء ما كان ولو شئته .حتى لو شئت والله تعالى لم يشأ فإنه لن يكون ،بل يقيض الله تعالى أسباباً تحول بينك وبينه حتى لا يقع ،وهذه مسألة يجب على الإنسان أن ينتبه لها ،أن يعلم أن فعله بمشيئته مشيئة تامة بلا إكراه ،لكن هذه المشيئة مقترنة بمشيئة الله .يعلم أنه ما شاء الشيء إلا بعد أن شاء الله ،وأن الله لو شاء ألا يكون لم يشأه الإنسان ،أو شاءه الإنسان ولكن يحول الله بينه وبينه بأسباب وموانع ،{رب العالمين} قال:{رب العالمين} إشارة إلى عموم ربوبية الله ،وأن ربوبية الله تعالى عامة ولكن يجب أن نعلم أن العالمين هنا ليست كالعالمين في قوله{إن هو إلا ذكر للعالمين} فالعالمين الأولى{ذكر للعالمين} من أُرسل إليهم الرسول ،أما هنا{رب العالمين} فالمراد بالعالمين كل من سوى الله ،فكل من سوى الله فهو عالم ؛لأنه ما ثمّ إلا رب ومربوب ،فإذا قيل رب العالمين تعيّن أن يكون المراد بالعالمين كل من سوى الله ،كما قال الإمام شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهابرحمه الله: «وكل ما سوى الله فهو عالم ،وأنا واحد من ذلك العالم » .
والحاصل أن هذه السورة سورة عظيمة ،فيها تذكرة وموعظة ينبغي للمؤمن أن يقرأها بتدبر وتمهل ،وأن يتعظ بما فيها ،كما أن الواجب عليه في جميع سور القرآن وآياته أن يكون كذلك حتى يكون ممن اتعظ بكتاب الله وانتفع به ،نسأل الله تعالى أن يعظنا وإياكم بكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وآياته الكونية إنه على كل شيء قدير .