ثم ختم الله تعالى هذه السورة بما يبهج القلب ويشرح الصدر فقال:
{يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية}{ارجعي إلى ربك} يقال هذا القول للإنسان عند النزع في آخر لحظة من الدنيا ،يقال لروحه: اخرجي أيتها النفس المطمئنة ،اخرجي إلى رحمة من الله ورضوان ،فتستبشر وتفرح ،ويسهل خروجها من البدن ،لأنها بشرت بما هو أنعم مما في الدنيا كلها ،قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لموضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها » ،سوط الإنسان العصا القصير ،موضع السوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها ،وليست دنياك أنت ،بل الدنيا من أولها إلى آخرها ،بما فيها من النعيم ،والملك ،والرفاهية وغيرها ،موضع سوط خير من الدنيا وما فيها ،فكيف بمن ينظر في ملكه مسيرة ألفي عام ،ألفي سنة يرى أقصاه كما يرى أدناه ،نعيم لا يمكن أن ندركه بنفوسنا ولا بتصورنا{فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاءً بما كانوا يعملون} [ السجدة: 17] .{النفس المطمئنة} يعني المؤمنة الامنة ،لأنك لا تجد نفسًا أطمن من نفس المؤمن أبداً ،المؤمن نفسه طيبة مطمئنة ،ولهذا تعجب الرسول صلى الله عليه وسلّم من المؤمن قال: «عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير ،إن أصابته ضَّراء صبر فكان خيراً له ،وإن أصابته سَّراء شكر فكان خيراً له » ،مطمئن راض بقضاء الله وقدره ،لا يسخط عند المصائب ،ولا يبطر عند النعم ،بل هو شاكر عند النعم ،صابر عند البلاء ،فتجده مطمئناً ،لكن الكافر أو ضعيف الإيمان لا يطمئن ،إذا أصابه البلاء جزع وسخط ،ورأى أنه مظلوم من قبل اللهوالعياذ باللهحتى إن بعضهم ينتحر ولا يصبر ،ولا يطمئن ،بل يكون دائماً في قلق ،ينظر إلى نفسه وإذا هو قليل المال ،قليل العيال ليس عنده زوجة ،ليس له قوم يحمونه ،فيقول: أنا لست في نعمة ،لأن فلانًا عنده مال ،عنده زوجات ،عنده أولاد ،عنده قبيلة تحميه ،أنا ليس عندي ،فلا يرى لله عليه نعمة ،لأنه ضعيف الإيمان فليس بمطمئن ،دائماً في قلق ،ولهذا نجد الناس الان يذهبون إلى كل مكان ليرفهوا عن أنفسهم ليزيلوا عنها الألم والتعب ،لكن لايزيل ذلك حقاًّ إلا الإيمان ،الإيمان الحقيقي الذي يؤدي إلى الطمأنينة ،فالنفس المطمئنة هي المؤمنة ،مؤمنة في الدنيا ،آمنة من عذاب الله يوم القيامة ،قال بعض السلف كلمة عجيبة قال: لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف ،هل تجدون أنعم في الدنيا من الملوك وأبنائهم ،لا يوجد أحد أنعم منهم في الظاهر يعني نعومة الجسد ،لكن قلوبهم ليست كقلوب المؤمنين ،المؤمن الذي ليس عليه إلا ثوب مرقع ،وكوخ لا يحميه من المطر ،ولا من الحر ،ولكنه مؤمن ،دنياه ونعيمه في الدنيا أفضل من الملوك وأبناء الملوك ،لأن قلبه مستنير بنور الله ،بنور الإيمان ،وها هو شيخ الإسلام ابن تيميةرحمه اللهحبس وأوذي في الله عز وجل ،فلما أدخل الحبس وأغلقوا عليه الباب قال رحمه الله:{فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب} [ الحديد: 13] .يقول هذا تحدثاً بنعمة الله لا افتخاراً ثم قال: ( ما يصنع أعدائي بيأي شيء يصنعونإن جنتي في صدريأي الإيمان والعلم واليقينوإن حبسي خلوة ،ونفييإن نفوه من البلدسياحة وقتلي شهادة ) هذا هو اليقين ،هذه الطمأنينة ،والإنسان لو دخل الحبس كان يفكر ما مستقبلي ،ما مستقبل أولادي ،وأهلي ،وقومي ،وشيخ الإسلامرحمه اللهيقول: ( جنتي في صدري ) وصدق .ولعل هذا هو السر في قوله تبارك وتعالى:{لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى} [ الدخان: 56] .يعني في الجنة لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ،ومعلوم أن الجنة لا موت فها لا أولى ولا ثانية ،لكن لما كان نعيم القلب ممتداً من الدنيا إلى دخول الجنة صارت كأن الدنيا والاخرة كلها جنة وليس فيها إلا موتة واحدة .