{سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا ( 15 ) قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ( 16 )} .[ 15-16]
تعليق على الآية
{سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله} .
والآية التالية لها وما فيها من صور وتلقين
عبارة الآيتين اللغوية واضحة ،وسين المستقبل فيهما قرينة على أن الأقوال التي حكيت في الأولى عن المتخلفين والتي أمر النبي بأن يقولها لهم في الثانية سابقة على المواجهة .ومن قبيل ما سوف يكون حين المواجهة .وتكون الآيتان والحالة هذه تتمة أو استمرارا للسياق السابق .وقد نزلتا معا في أثناء طريق عودة النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين إلى المدينة من الحديبية .
وفي الآية الأولى صورة من صور الأعراب في مطامعهم وتناقضهم حيث يتخلفون حين الخطر عن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين ويعتذرون بالأعذار الكاذبة ،ثم يطلبون منهم السماح لهم باتباعهم في الرحلات التي تكون الغنائم والسلامة فيها مضمونتين ،فإذا منعوا من ذلك سخطوا واتهموا مانعيهم بالحسد .وفي هذا ما فيه من قلة الشعور وحسن الإدراك .
والمتبادر أن المتخلفين المذكورين في هذه الآيات هم نفس المتخلفين المذكورين في الآيات السابقة أو منهم ،ولم يرو المفسرون روايات خاصة في صدد هذه الآيات ؛حيث يؤيد هذا ما قلناه من وحدة السياق وظروف النزول .والله أعلم .
وفي الآية الثانية إيذان رباني بعدم رضاء الله عن هذه الحالة ،وإيجاب عدم السماح لهم إذا انطلق المسلمون إلى رحلة مضمونة النجاح والغنائم والسلامة كعقوبة لهم ،ثم إتاحة فرصة اختبارية لهم ؛حيث يؤذنون قبل ذلك بأنهم سيدعون إلى قتال قوم أشداء البأس من أعداء المسلمين .وحينئذ ينكشف أمرهم ،فإن أطاعوا استحقوا أجر الله العظيم ،وإن تولوا كما تولوا من قبل وتخلفوا حق عليهم عذاب الله الأليم .
ولقد قيل{[1936]} إن جملتي{يريدون أن يبدلوا كلام الله} و{كذلكم قال الله من قبل} تعطفان على آيات وردت في سورة التوبة في حق المتخلفين وهي{فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ 81 فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ 82 فَإِن رَّجَعَكَ اللّهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ 83} وقيل{[1937]} إن الله أمر نبيه بأن لا يسمح لهم بالذهاب معه إلى رحلة فيها مغانم ،وأن لا تكون مثل هذه الرحلة إلا للذين شهدوا الحديبية .
والقول الأول بعيد ؛لأن آيات التوبة نزلت في ظروف غزوة تبوك في السنة الهجرية التاسعة على ما هو متفق عليه .وقد فنده غير واحد من المفسرين بناء على ذلك{[1938]} والقول الثاني هو الأوجه .ويكون ما جاء في الجملتين إما أنه نزل قرآنا في سورة الفتح أو غيرها في مناسبة ما ،ثم نسخ ورفع لحكمة ربانية ،وإما أنه إلهام رباني ووحي غير قرآني ،ثم أيده القرآن في الجملتين ،وهذا مما تكرر على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة .
ولقد قال المفسرون عزوا إلى بعض التابعين: إن المغانم المذكورة في الآية الأولى هي مغانم خيبر ،وإن الله قد وعد بها الذين شهدوا الحديبية خاصة عوضا عن غنائم أهل مكة إذ انصرفوا عنهم على صلح ولم يصيبوا منهم شيئا .وإن الله قد أمر نبيه أن لا يسير معه إلى خيبر غيرهم{[1939]} .
والزحف على خيبر قد وقع بعد العودة من الحديبية بشهرين في رواية ،وبخمسة أشهر في رواية أخرى .ولم يذكر كتاب السيرة القدماء أن شهودها اقتصروا على من شهد الحديبية{[1940]} حتى ولم يذكر ذلك المفسرون الذين رووا قصة وقعة خيبر{[1941]} هذا إلى ما هو من أن أسلوب الآيتين اللتين نحن في صددهما عام وفي صدد حكاية ما كانت عليه حالة الأعراب من رغبة الابتعاد حين الخطر ورغبة الإقبال حين تكون المغانم والسلامة مضمونة .ثم في صدد إتاحة فرصة لهم بإثبات صدق إيمانهم في موقف ليس فيه غنيمة ،وإنما فيه خطر على ما شرحناه قبل .
ولذلك فإنه يخطر بالبال أن تكون رواية تأويل المغانم بمغانم خيبر هي من قبيل التطبيق ؛لأنه لم يكن في زحف خيبر جماعة من هؤلاء المتخلفين .والله أعلم .
ولقد تعددت روايات المفسرين المعزوة إلى ابن عباس والضحاك وقتادة وسعيد ابن جبير في المقصود بجملة{قوم أولى بأس شديد} منها أنهم هوازن وثقيف ،ومنها أنهم بنو حنيفة قوم سليمة ،ومنها أنهم الروم والفرس ،ومنها أن الجملة مطلقة لم تعن قوما بأعيانهم{[1942]} ،ونرى هذا هو الأوجه والأقوال الأولى من قبيل التطبيق والله أعلم .
والآيتان كالآيات السابقة لا تخلوان هما الأخريان مع خصوصيتهما الزمنية والموضوعية من صورة يتكرر ظهورها من فئات من الناس في كل ظرف ؛حيث يبتعدون عن الخطر ،ويتوارون وقت الشدة والنضال ويعتذرون بالأعذار الكاذبة ،ثم لا يخجلون من المسارعة حين الأمن والسلامة إلى المطالبة بالغنم دون الغرم .
ولا تخلوان بالتبعية من تلقين جليل مستمر المدى بتقبيح هذه الصورة من جهة وبجعل إخلاص هذه الفئات وصدق دعواها منوطين بامتحان قوي يتحملون فيه الجهد والمغرم حتى يصح لهم أن يلتحقوا بزمرة الصالحين الصادقين ،ويكون لهم ما لهم وعليهم ما عليهم .
هذا ،ولسنا نرى في جملة{ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون} نقضا لما استنتجناه من تقريرات القرآن والسنة الثابتة ،وأوردناه في مناسبات سابقة عديدة من كون القتال في الإسلام هو للدفاع ومقابلة العدوان بالمثل ،وليس للإكراه على الإسلام أو قتال الكافرين بالرسالة الإسلامية عامة دون تفريق بين المسالمين والمعادين .فالقوم في الآية كفار أعداء وجب قتالهم وحين تقوم حالة الحرب بين المسلمين وأعدائهم من الكفار لا تقف إلا بانتهاء الأعداء عن مواقفهم .
وهذا يكون بالإسلام كما يكون بالصلح .وصلح الحديبية مثل قريب على ذلك ينطوي فيه كون هذا لا يقتصر على غير العرب أو على غير المشركين منهم .