/م52
تعليق على تعبير
{وما يذكرون إلا أن يشاء الله}
ولقد يبدو فيما جاء في الآية الخامسة من إناطة تذكر الناس بمشيئة الله نقض أو تحديد لما جاء في الآية [ 37] من تقرير المشيئة للناس إطلاقاً .ولقد قال بعض العلماء والمفسرين: إن هذه الآية وما في بابها مثل آية سورة الإنسان هذه:{وما تشاءون إلا أن يشاء الله} بسبيل تقرير أن الناس إنما يشاءون بقوة المشيئة التي خلقها الله فيهم .وقال آخرون: إن إناطة مشيئة الناس بمشيئة الله تعالى السابقة على مشيئتهم تعني مفهومها الظاهر إطلاقاً فلا يشاءون إلاّ ما شاء الله{[2345]} .وقد كانت هذه الآية وما يماثلها مدار جدل بين علماء المذاهب الكلامية بسبب ما يبدو من التعارض بينها وبين الآيات الأخرى التي تقرر قابلية الاختيار والمشيئة في الناس إطلاقاً .
ونقول أولا: إن النظم القرآني جرى أحياناً على نسبة كل شيء من أفعال العباد الواقعة أو المتوقعة إلى الله تعالى ،وعلى جعل كل شي منها منوطاً بمشيئته مع قيام قرائن في الآيات نفسها أو في غيرها ،على أنها من كسب العباد ومشيئتهم المباشرة فيما يترافق معها أو يترتب عليها من تثريب وتنديد ووعيد لما يكون ضلالات وانحرافات وتنويه ووعد جميل لما يكون استقامة وحقاً وهدى .غير أنه جرى أيضا وفي الأعم الأغلب على نسبة الأفعال والمشيئة إلى العباد مما هو مثبوت في مختلف السور بكثرة تغني عن التمثيل بحيث يسوغ القول: إن الأسلوب الأول ينبغي أن يؤول على ضوء ما فيه وما في القرآن من قرائن ولا يصح أن يوقف عند كل عبارة لحدتها ؛لأن في ذلك تعريضاً للقرآن للتعارض والاختلاف مما يجب تنزيهه عن ذلك ،ولاسيما إن في القرآن حلاً لما يبدو من توهم في ذلك على ما شرحناه في سياق جملة{كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء} [ 31] وإن القول إن الناس يشاءون بقوة المشيئة التي أودعها الله فيهم هو المتسق مع تقرير المشيئة للعباد وتقرير قابلية الاختيار والكسب فيهم مما انطوى في الآيات السابقة وآيات كثيرة أخرى ،وهو المتسق مع روح الآية نفسها التي جاءت بعد الآية التي تقرر المشيئة للناس مباشرة .ثم هو المتسق مع حكمة إرسال الرسل ويوم الجزاء الذي يوفى فيه الناس جزاء أعمالهم التي اكتسبوها بقوة هذه المشيئة والقابلية للاختيار والكسب التي أودعها الله فيهم بمقتضى إرادته وحكمته ومشيئته الأزلية .وعبارة الآيات ومعظم آيات القرآن التي تُنسب الأفعال والتفكير للإنسان من الأدلة التي تكاد تكون حاسمة على ذلك .ويتبادر لنا إلى هذا أنه أُريد بالآية تسلية النبي صلى الله عليه وسلم حتى لا يغتم بموقف الإعراض والعناد والمناوأة والتكذيب الذي وقفه الجاحدون .وقد تكرر مثل ذلك في مواضع كثيرة في القرآن مثل آية سورة فاطر هذه:{أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ( 8 )} ،وآية القصص هذه:{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ( 56 )} وآية سورة الأنعام هذه:{وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاء فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ ( 35 ) إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ( 36 )} بحيث تبدو بذلك حكمة التنزيل في الأسلوب .ويلحظ أن الآيات نسبت اكتساب الهدى والاستجابة إلى أصحابها مما قد يكون فيه دليل على صحة تأويلنا ،والله أعلم .
/خ56