إن ملة إبراهيم عليه السلام ، وهي التوحيد ، والطهارة من الوثنية هي لب الدين اصطفاه الله تعالى لنا ، وهي الحق الذي لا ريب فيه ، وهي مقياس الحق الذي يتميز به من الباطل ، فمن آمن بها فقد اهتدى ، ومن خالفها فقد ضل وغوى ، وأهل الكتاب الذين حرفوا القول عن مواضعه ، وغيروا وبدلوا ، وخرجوا عن المنهاج وتركوا ملة إبراهيم عليه السلام يزعمون أن ما عندهم حق ، وهو الهداية ، كذلك ضلت أفهامهم ، فزعم اليهود أن في يهوديتهم السلامة ، وزعم النصارى بنصرانيتهم الوثنية أنها الهداية وكل في غيهم يعمهون ، ولذا قال تعالى:{ وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا} أي قال اليهود:أي الحاقدون الكافرون بأنعم الله التي توالت عليهم:كونوا هودا ، أي كونوا يهودا تهتدوا ، لأن الهداية تحوطهم ، وهم في قبتها ، وقال النصارى المثلثون الوثنيون:كونوا نصارى تهتدوا ، لأن الهداية في حقبتهم لا تخرج عنهم أبدا والعاقبة لهم في زعمهم ، مع أنهم وثنيون ، لا يتبعون نبيا مرسلا ، ولكن يتبعون فلسفة كاذبة ضالة مضلة{[111]} .
قال اليهود ما قالوا ، وقال النصارى المثلثون ما قالوا ، فأمر الله تعالى نبيه بأن يرد قولهم بقوله:{ قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين} .
قل لهم يا رسول الله:إن المقياس الصحيح الواجب الاتباع ، لأجل البعد عن الباطل ، والاهتداء بهدى الحق –مضربا عن كلامهم صفحا –هو ملة إبراهيم ، ولذا قال تعالى:{ قل بل ملة إبراهيم حنيفا} ، وبل هنا للإضراب عن أوهامهم وترهاتهم ، وملة مفعول لفعل محذوف تقديره:بل اتبعوا ملة إبراهيم حنيفا ، أي مائلا للاستقامة أو مائلا نحو الحق هاديا إليه ، فالحنيفية السمحة أي الحق ، وجنف وحنف معناهما الميل ، بيد أن الجنف الميل إلى الباطل كما قال تعالى:{ غير متجانف لإثم . . . 3} [ المائدة] ، والحنيف المائل نحو الحق ، والحنف يطلق على الاستقامة والحنيف معناه المستقيم الذي لا عوج فيه ولا انحراف .
ويثبت الله سبحانه وتعالى الوحدانية في ملة إبراهيم ، فيقول:{ وما كان من المشركين} وهذا نفي للشرك عن ملته ، ورد للعرب المشركين عن تبعيته ، وإن كانوا من سلالته .
ووكل الله تعالى إلى رسوله الأمين الرد على اليهود والنصارى والمشركين ، لأنه من تبليغ رسالة ربه ، وبيان الحقائق التي يجب عليه بيانها ، وإن ذلك الرد كقوله تعالى:{ ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين 67} [ آل عمران] .