وقال تعالى:{ وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى 127} ذكر الله تعالى عقوبتين لمن أعرض عن ذكر ربه أي عن الداعي لذكر ربه ، أولاهما:المعيشة الضنك ، أي الضيقة التي تضيق فيها النفوس وتطوع للمطامع التي لا تنال ، وإن نيلت طلبت غيرها ، وقد بين ابن كثير في تفسيره كيف كان الخلو من اليقين يجعل المعيشة ضنكا ، قال ابن كثير في معنى الضنك:"أي ضنكا في الدنيا فلا طمأنينة ولا انشراح صدر بل صدره ضيق حرج لضلاله ، وإن تنعم ظاهره ، ولبس ما شاء وأكل ما شاء ، وسكن حيث شاء فإن قلبه لم يخلص إلى اليقين والهدى فهو في قلق وحيرة وشك فلا يزال في ريبة يتردد ، فهذا من ضنك المعيشة".
هذه هي العقوبة الأولى وقد أشرنا إليها من قبل ، أما العقوبة الثانية ، فقد أشار سبحانه وتعالى إليها بقوله عز من قائل:{ ونحشره يوم القيامة أعمى} وذكرنا أن العجز هو عن الحجة والبرهان ، حيث يجب الإدلاء بها ، فهو عجز في موضع الحاجة ، ذانكم عقابان أحدهما في الدنيا ، وهو مشتق من ذات الجريمة فهو عقاب من ذات الفعل ، والآخر وهو على ما لم يستعد له من الحساب وقد جاء من إنكار البعث ، ولو كان قد آمن به لاستعد له ، وما فوجئ به وارتج قلبه ، فكان هذا عذابا شديدا ، لأن اللسان يقف حيث الحاجة أشد ما تكون إليه ، والبصر يكون عليه غطاء عند إرادة الإبصار .
هاتان العقوبتان قبل عذاب الآخرة الذي يكون بعد الحساب ، وتقدير الجزاء ، وهذان العقابان ينالان من أسرف في أمره ، وانغمر في الشهوات ، ولذلك قال تعالى:{ وكذلك نجزي من أسرف} .
كهذا العقاب الدنيوي من إحساس بضنك العيش والضيق فيه والتبرم بحياته والإحساس بفقد الاطمئنان لأي شيء ، والإسراف على نفسه بالذات ، وبالإحساس بالحرمان المتجدد الذي لا يشبع من لذة ، ثم يستكبر الأمور ، ولذا تجده يكثر الانتحار وبخع النفس عند المسرفين في المعاصي ، والمسرفين على أنفسهم بقلقهم ، وعدم اطمئنانهم ومع ذلك يكون إحساسهم بسد الطرق في وجوههم .
فالإشارة في قوله تعالى:{ وكذلك نجزي من أسرف} وهي إلى المعيشة الضنك ، والحشر أعمى{ وكذلك} مفعول ل{ نجزي} ، والتعبير بالموصول{ من} للإشارة إلى أن الصلة ، وهي الإسراف ، سبب لذلك الجزاء .
وقد بين سبحانه أن وراء هذا العذاب عذاب أشد وأبقى ، فقال عز من قائل:{ ولعذاب الآخرة أشد وأبقى} وهو الذي يكون بعد الحساب ، وتقرير أن الجزاء أشد لأنه بالنار ، وهو أبقى أي إنهم يكونون في جهنم خالدين فيها وبئس المهاد .