ولقد حدث في أثناء الموقعة ان زاغت الأبصار ، فظن بعض المجاهدين ان النبي صلى الله عليه وسلم قتل ، فاضطربت عزائم ، واسترخت همم ، واستضعف أقوياء ، وقد لا مهم الله تعالى على ذلك أشد اللوم ، وكأنما كان الظن الذي غلبهم ليبين الله لهم حقيقة غابت عنهم ، وهي ان محمدا بشر كالبشر ، يموت كما يموتون ، ويحيا كما يحيون ، ولذا قال سبحانه:{ وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل} .
تقرير لحقيقة ثابتة وأمر واقع ، وهو ان محمدا بشر من البشر ، وانه يموت كما يموت سائر البشر ، وقد قرر هذه الحقيقة ومعها دليلها ، وذلك ببيان حقيقتين كل واحدة منهما تصلح مقدمة في دليل لإثبات انه ميت لا محالة كما قال تعالى:{ إنك ميت وإنهم ميتون30} [ الزمر] .
الحقيقة الأولى او المقدمة الأولى:ان محمدا صلى الله عليه وسلم رسول فقط فليس أكبر من رسول ، ولذا قال تعالى:{ وما محمد إلا رسول} أي ليس له صفة تميزه على الناس إلا الرسالة ، والحقيقة الثانية:أن الرسالة لا تقضي البقاء ، فقد مضى رسل من قبله وماتوا ، وقد قررها سبحانه بقوله:{ قد خلت من قبله الرسل} .
ومن مجموع الحقيقتين يثبت ان محمدا سيموت ؛ لأنه إذا كان ليس إلا رسولا ، والرسل من قبله قد ماتوا ، فهو سيموت لا محالة .
وإذا كان محمد سيموت لا محالة فإن رسالته من بعده ، ولا يصح ان ينقلب المؤمنون من بعده ، بل عليهم ان يحملوا العبء من بعده ، وقد بلغ رسالات ربه ، وأتم بيان دينه ، ولذا وبخ المؤمنون على ما كان منهم يوم احد إذ ذاع في وسطهم ان محمدا قد قتل ، فقال تعالى:{ أفإن مات او قتل انقلبتم على أعقابكم} .
الفاء هنا لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، أو للإفصاح عن شرط مقدر ، والاستفهام للتوبيخ ، والمعنى:أإذا مات وقد علمتم ان موته حق لا ريب فيه ، أو قتل في الميدان والقتل طريق من طرق الموت ، انقلبتم على أعقابكم ، أي عدتم كفارا بعد ان آمنتم ، وعباد أوثان بعد ان صرتم من اهل التوحيد ، وضلالا بعد ان اهتديتم ، والتعبير عن ذلك بقوله تعالى:{ انقلبتم على أعقابكم} تصوير سام لمن ضل بعد ان اهتدى ، فهو تصوير لمن يرجع إلى الوراء وبصره إلى الأمام ، وأعقابه هي التي تقوده ، وهو منكس جعل رأسه في أسفل وعقبه في أعلى ، وذلك أقبح منظر يكون للإنسان .
ولكن هل وقع ذلك الضلال أو كان ما يدل على احتمال وقوعه . يروى في ذلك ان عبد الله بن قمئة الحارثي أقبل يريد قتل النبي صلى الله عليه وسلم ، فتصدى له مصعب بن عمير حامل راية المؤمنين فقتله المشرك ، وظن انه الرسول فأذاع ذلك في المشركين ، وانتقل الخبر إلى بعض المؤمنين ، إذ قد اختلط الحابل بالنابل ،فريعت قلوب بعض المسلمين وولوا مدبرين ، وانطلق المنافقون يقولون:لو كان نبيا ما قتل ، وثبت المؤمنون الصادقون ، وقد مر انس بن النضر ، ووجد قوما خارت عزائمهم فقال لهم:يا قوم إن كان محمد قتل فإن رب محمد حي لا يموت ، وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا على ما قاتل عليه ، وموتوا على ما مات عليه . .اللهم اعذر إليك مما يقول هؤلاء ، وابرأ إليك مما جاء به هؤلاء ، ثم شد بسيفه فقاتل حتى قتل . وقد مر بعض المهاجرين بانصارى يتشحط{[583]} في دمه ، فقال له:أشعرت ان محمدا قد قتل ، فقال:إن كان قد قتل فقد بلغ ، فقاتلوا على دينكم ، ولقد أصيب أفلا تمضون على ما مضى عليه نبيكم حتى تلحقوا به .
وبهذا يتبين ان المحاربين كانوا فريقين:أحدهما رعب واضطراب ، والثاني ثبت وجاهد ، ولقد ذكر الله حال الفريقين ، ومقام كل واحد من الحق ودعوته فقال تعالت كلماته في الفريق الأول:{ ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا} .
أي ومن ينقلب على عقبيه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فلن يضر دين الله تعالى في شيء ، ولن دين الله تعالى بعد ان بلغ النبي رسالة ربه ، وأكمل البيان لهذا الدين ، قد ظهر وصار حقيقة ثابتة في الوجود ، فلا عبرة بمن يخرج ، كما قال تعالى:{ من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين . . .54}[ المائدة] .
وفي هذا تنبيه إلى ثلاثة أمور:
أولها:أن من يجاهد عليه ان يجاهد لحقيقة من الحقائق الثابتة الخالدة التي لا تفنى ولا تنتهي ، ولا يقاتل لجل الأشخاص الذين ينتهون ويفنون ، فالمعاني خالدة ، والأشخاص ميتون .
الثانية:أن من يفسد قلبه فيرتد بعد إيمان ويكفر بعد يقين ، لا يضر دين الله بل يضر نفسه ؛لن الضال المضل يضر نفسه قبل أن يضر غيره .
ثالثها:إخبار الله تعالى بأن هذا الدين خالد ثابت باق إلى يوم القيامة ؛لأنه سبحانه قد قرر انه لا يضره من يخرج عنه او يمرق عن أحكامه ، او يتركها مستهينا ، فإن للإسلام ربا يحميه ، ورجالا صدقوا ما عاهدوا الله عليه .
ثم بين سبحانه من بعد ذلك جزاء الصابرين الذين لم يرعبوا ولم يضطربوا ، فقال سبحانه:{ وسيجزي الله الشاكرين} .
أي وسيجزي الله سبحانه وتعالى الذين صبروا في هذه الشديدة وشكروا الله تعالى في السراء والضراء ، فلم يزعجهم البلاء كما لم تبطرهم النعماء ، فصفة الشكر كصفة الصبر كلتاهما تظهر في السراء والضراء معا ، فالصبر يكون في النعمة بالقيام بحقها ، وفي الكريهة باحتمالها ، من غير تململ وتضجر .
وقد يقول قائل:لماذا عبر هنا بالشاكرين ولم يعبر بالصابرين ، والصبر هنا هو الأظهر ، فنقول:إن الشكر في هذا المقام هو أعلى درجات الصبر ، وذلك انهم لم يحتملوا البلاء فقط ، بل تجاوزوا حد الصبر إلى حد الشكر على هذه الشديدة ، فالشكر هنا صبر وزيادة ، وقليل من يكون على هذه الشاكلة ، ولذا قال تعالى:{ وقليل من عبادي الشكور13}[ سبأ] .
وإنا نضرع إلى الله تعالى ان يجعلنا من الصابرين في البلاء ، الشاكرين في الضراء والسراء معا ،إنك سميع الدعاء .