ولقد أشار سبحانه وتعالى إلى ان المؤمن الصادق الإيمان يعرف طريق الجنة ، وأن الموت في سبيلها هو شكر لنعمة الله تعالى فيما انعم في الحياة الدنيا ، وفيما ينعم في الجنات في الحياة الآخرة ، وإن الذين قاتلوا في غزوة احد الذين سيقت لهم هذه العبر يعلمون ذلك ويعرفونه ويؤمنون به ، وينفذونه ، ولذا قال سبحانه وتعالى:{ ولقد تمنون الموت من قبل ان تلقوه} .
كان المؤمنون يتمنون الموت حقا وصدقا ، وصدق الله العظيم ، ذلك انهم كانوا يتشوقون للشهادة ويريدونها ويطلبون أسبابها ، وفي غزوة احد بالذات ما كان للنبي صلى الله عليه وسلم رأى في الخروج من المدينة ، ولكن شباب المجاهدين أرادوا اللقاء خارجها ، فنزل عليه الصلاة والسلام على حكم الشورى وقادهم ، وما كانوا يريدون عرضا من أعراض الدنيا ، ولا غاية لهم إلا ان تنالوا إحدى الحسنيين الظفر او الشهادة ، وفي كلتيهما إعلاء كلمة الحق ، وخفض كلمة الباطل .
ومعنى تمنى الموت:تمنى لقاء سببه وهو الحرب ، وكان الله سبحانه وتعالى ينبههم إلى انهم بتمنيهم لقاء العداء في الميدان يجب ان يفرضوا ان الموت ينالهم كما ان الحياة العليا قد ينالونها ، فكان عليهم ان يتوقعوا الموت عند تمني اللقاء ، وان يعلموا ان تمنيهم للقاء هو في ذاته تمن للموت ، وان تمني الموت هو سبيل النصر وطريق الظفر ، فإن الشجاع هو الذي يدخل الميدان طالبا الشهادة ، فإنه لا يموت إلا إذا قتل عددا ، ولقد وصف فارس الإسلام علي رضي الله عنه بأنه كان إذا تقدم إلى الميدان لا يدري أيقع على الموت ام يقع الموت عليه ، فكان يقع رضي الله عنه على الموت يصيب به أعداء الله وأعداءه .
ولقد أورد الزمخشري في الكشاف اعتراضا خلاصته:كيف يتمنى المؤمنون الموت ، وفي الموت غلبة ونصرة للأعداء فكأنهم يتمنون ذلك النصر لأعدائهم ، وقد أجاب عن ذلك بأنهم يتمنون فضل الشهادة من غير نظر إلى ما يجره ذلك على العداء من ظفر ، ونحن نجيب جوابا آخر ، وهو ان تمنى الموت هو تمنى الحرب في سبيل نصرة الله ، ومن دخل الحرب متمنيا الموت فإنه لا يترتب على قتله نصر للأعداء بل يترتب عليه هزيمة لهم ، كما أشرنا قريبا ، وقد كان السبيل الحق إلى النصر أن يدخلوا المجاهدون غير حريصين على حياتهم ، إنما يحرصون على النصر ، ولو كان يموت آحاد منهم ، ولا يتحقق ذلك إلا إذا كان كل واحد لا يحرص على الحياة ، ولكن يطلب الموت ، وإن طلب الموت يؤدي إلى الحياة ، كما قال الصديق( طلب الموت توهب لك الحياة ، وفر من الشرف يتبعك الشرف ) ، وإن الحرص على الحياة يؤدي إلى الجبن ، والجبن يؤدي إلى الهزيمة ، وإن المجاهد الذي يستحق شرف هذا الإسم يتقدم مريدا عزه الحق ، وقابلا الموت ، بل يتمناه ليكون شهيدا ، وإذا وقع يكون امرا قد توقعه ، ومن بقي من بعد عليهم ان يجددوا العزيمة ، ويعيدوا الكرة عليهم ، ولذا عتب الله سبحانه وتعالى على المؤمنين إذ أصابهم الغم عندما اشتدت شديدة الحرب عليهم فأصابهم ما أصابهم بل أمرهم ان يثبوا مرة أخرى ،وإذا كانوا قد تمنوا الموت ، فقد وقع لبعض منهم ما تمنوا ، ولذا قال سبحانه وتعالى:{ فقد رأيتموه وانتم تنظرون} .
الفاء هنا للإفصاح ،فهي تفصح عن شرط مقدر دل عليه صدر الكلام ، ومعناه:إذا كنتم تمنيتم الموت فقد رأيتموه رأي العين وشاهدتموه ، فوقع ما توقعتم ، وقوله تعالى:{ وانتم تنظرون}تأكيد لحال الرؤية او تصوير لرؤيتهم ؛لن الجملة حالية والتعبير بالمضارع يفيد التصوير ، وإحضار الصورة الواقعة في الماضي كأنها واقعة في الحاضر ، فيستحضرها العقل كما وقعت ، وكما ظهرت في الوجود ، والنظر الذي قرره سبحانه بقوله تعالى:{ وانتم تنظرون}يتضمن النظر إلى الموقعة كلها ، وكيف كان الانتصار في ابتداء المر عند الطاعة ، ثم كيف كان الانهزام عند المخالفة إرادة عرض الدنيا من بعضهم كما قال تعالى:{ منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة . . .152}[ آل عمران] .
ويتضمن النظر بعد وقوع الانهزام كيف تفرقت الإرادات ، وقد كانت إرادة واحدة ، وكيف تضعضعت بعض اهمم ، وكيف كثرت الظنون ، وكيف أصابكم الغم ، ولم تفكروا في إعادة الوثبة ، ولذلك كان قوله تعالى:{ وانتم تنظرون} متضمنا تأكيد الرؤية ومصورا لها ، ومتضمنا مع ذلك العتب او اللوم ؛ لن حالهم لم تكن متفقة مع ما كانوا يتوقعونه من قبل ، إذ إن حالهم من بعد انتهاء الموقعة تفيد انهم كانوا يريدون النصر رخاء سهلا من غير عقبة تحول يجب تذليلها ، ومن غير شدة عنيفة يجب الصبر عليها .