{ يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا( 174 ) فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيا( 175 )} .
/م174
{ يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا} الخطاب عام لأهل العقول من الناس أجمعين كافرهم وملحدهم ومشركهم ويهودهم ونصاراهم والمؤمنين بالله ورسله ، وما أنزل على رسوله الأمين محمد صلى الله عليه وسلم .
والبرهان الذي جاء رب العالمين الناس به هو النبي صلى الله عليه وسلم وقيل إنه القرآن ، وقيل إنه القرآن والنبي صلى الله عليه وسلم ، وقد ذكر الزمخشري الأقوال الثلاثة على أنها محتملة ، ويصح أن يكون آخرها أجمعها وهو أولى بالاعتبار لهذا ، وتوجيه القول على أن النبي صلى الله عليه وسلم هو البرهان ، أن شخصه الكريم من يوم مولده إلى أن قبضه الله تعالى إليه برهان صدق الرسالة التي كان يدعو إليها ، ويهدي الناس بها ، ذلك أنه نشأ يتيما من أبيه وأمه ومع ذلك لم يتدل إلى ما يتدلى إليه اليتامى فلم يقع منه ما يتهافت فيه الذين حرموا عطف الأب وحنان الأم ، ولم يتجه إلى ما يتجه إليه الغلمان في حياته الأولى بل كان الجد يغلبه ، حتى لقد قال فيه جده وهو لم يبلغ الثامنة من عمره:( إن ولدي هذا سيكون له شأن} ، لما رآه من مخايل الذكاء والجد ، والعزوف صغيرا عن المعابث ، ولما بلغ سن الشباب بدا فيه الكمال وظهر واضحا في كل حياته ، فلم يكذب قط ، ولم يخن قط ، ولم يقع منه ما يقع من الشباب من مجون ، ولم يشرب خمرا أبدا مع شيوعها في الجاهلية ، والتفاخر بها ، ولم يلعب الميسر مع الانغمار فيه ، ولم يرتكب ما يخل بالمروءة ولم يسجد لصنم بل تاجر ، ولم يكن إلا أمينا في تجارته كما كان أمينا في عامة شؤونه ، حتى لقد لقب العرب بلقب الأمين ، فكان إذا ذكر هذا اللفظ لا يطلق إلا إليه كما يحمل الكل ، ويحمي الضعيف ويعين على نوائب الدهر ، كما وصفته زوجه أم المؤمنين خديجة ، ولما بعثه الله تعالى رحمة للعالمين كان أوضح ما يوصف به الخلق العظيم ، والعطف الكريم ، والجزم في الدعوة إلى الحق من غير وناء ، ولا كسل ، إذا سالم كان الوفي في عهده ، وإذا حارب كان العدل في حربه ، وإذا خاصم كان الشريف في خصومته وإذا تكلم كان العف في قوله ، وإذا عامل كان السمح في معاملته ، وإذا خطب كان كلامه فصل الخطاب ، أوتي جوامع الكلم ، كلامه حكم وعمله سلم ، وشرعه صلاح للناس في الدنيا والآخرة .
وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم له ذلك السمو فشخصه برهان الصدق ، ودليل الحق وكثيرا ما كان يراه الرائي فيسمع قوله ، فيحكم بصدقه من غير أن يطلب دليلا من غير شخصه الكريم ، رآه أعرابي فاسترعاه منظر الكريم ، فقال:من أنت ؟ قال الرسول الكريم:أنا محمد . فقال الأعرابي الذي يتكلم بما يسمع:"أنت الذي تقول فيك قريش أنك كذاب ، لا ليس هذا الوجه وجه كذاب"{[843]} . ثم آمن به بعد أن علم ما يدعو إليه .
هذا تخريج قول الذين قالوا إن البرهان هو النبي صلى الله عليه وسلم ، وهم كثيرون من التابعين .
وأما قول الذين قالوا إن البرهان هو القرآن الكريم فهو واضح لأن القرآن هو معجزة النبي صلى الله عليه وسلم الدالة على صدق رسالته ، ولكن الذي يقتضي توضيحه هو قوله تعالى بعد ذلك:
{ وأنزلنا إليكم نورا مبينا} فإنه واضح أن المراد منها القرآن ، لأنه المنزل من رب العالمين ، وهو النور الواضح الهادي إلى الرشاد ويجاب عن ذلك بأن القرآن الكريم فيه المزايا الثلاث فهو الحجة القائمة والمعجزة الدائمة ، وهو تنزيل من رب العالمين وهو نور يهدي للتي هي أقوم ، وإن النور المبين في القرآن ما اشتمل عليه من أحكام شرعية خالدة تنير السبيل وتوضحه لمن يسلك سبيل المؤمنين فهي نافعة في الدين مبينة الحق ، ومن اتبع أحكام القرآن هدى ومن خالفها هوى .
وعلى هذا يكون معنى قوله تعالى:{ وأنزلنا إليكم نورا مبينا} . أنزلنا إليكم مواعظ وقصصا وأحكاما شرعية هي كالنور في هدايته وإرشاده وبيانه للأشياء فهي مبينة للطريق المستقيم ، والنهج القويم والحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ، ولا من خلفه .
ولا يتغير المعنى إذا قلنا إن البرهان هو النبي صلى الله عليه وسلم ، لأنه حينئذ يفسر قوله تعالى:{ وأنزلنا إليكم نورا مبينا} بأنه القرآن ، والمعنى والمؤدى فيهما ، لا يختلف .
وهنا مباحث لفظية لا بد من الإشارة إليها بعبارات موجزة موضحة .
أولها:التعبير بقوله تعالى:{ من ربكم} . في قوله تعالى:{ قد جاءكم برهان} فيه تقوية لمعنى البرهان ، لأن ذلك الذليل إذا كان قد جاء من عند علام الغيوب الذي خلق السماوات والأرض وما فيهما ، لابد أن يكون برهانا صادقا مقنعا لطالب الحق ، مفحما لأهل الباطل الجاحدين ، وقد زكى معنى التأكيد التعبير بقد وبالمجيء في قوله تعالى:{ قد جاءكم} أي أنه أتاكم كالأمر المحسوس المؤكد الذي يرى ويحس فهو قائم بين أيديكم وحجة عليكم .
ثانيها:إسناد الإنزال إلى الذات العلية ذات الجلال والإكرام في قوله تعالى:{ وأنزلنا إليكم} فأسند إليه تعالى للإشارة إلى أنه تعالى المرجع وكما أن المآب إليه .
ثالثها:وصف الشرائع والقصص والمواعظ التي نزل بها القرآن بأنها نور مبين واضح ، أي أنه لا يخفى إلا على من أنفت حواسه ، وفسدت مشاعره ، وأصيب بعمى البصيرة وكان عليه غشاوة لا يرى معها النور الواضح المبين .
وإن الناس الذين خوطبوا بذلك الخطاب الإلهي قسمان فريق آمن واهتدى وانتفع بالنور الذي جاء الرسول به ، وفريق ضل وغوى ولم ينتفع بالنور الذي حمل مصباحه المزهر محمد صلى الله عليه وسلم ، وقد بين سبحانه وتعالى الفريق الذي اهتدى فقال تعالت كلماته:{ فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه} .