و{ الشياطين} جمع شيطان ،وحقيقته الجنّي ،ويستعمل مجازاً للبالغ غاية المقدرة والحذق في العمل الذي يعمله .ومنه قوله تعالى:{ وكذلك جعلنا لكل نبيء عدواً شياطين الإنس والجن}[ الأنعام: 112] ،فسخر الله النوع الأول لسليمان تسخيراً خارقاً للعادة على وجه المعجزة فهو مسخر له في الأمور الروحانية والتصرفات الخفية وليس من شأن جنسهم إيجاد الصناعات المتقنة كالبناء ،وسخر النوع الثاني له تسخير إذلال ومغلوبية لعظم سلطانه وإلقاء مهابته في قلوب الأمم فكانوا يأتون طوعاً للانضواء تحت سلطانه كما فعلت بلقيس وقد تقدم في سورة سبأ .
فيجوز أن يكون{ الشياطين} مستعملاً في حقيقته ومجازه .
و{ كُلَّ بناءٍ} بدل من{ الشَيَاطِينَ} بدل بعض من كل ،أي كل بنّاء وغوّاص منهم ،أي من الشياطين .و{ كُلَّ} هنا مستعملة في معنى الكثير ،وهو استعمال وارد في القرآن والكلام الفصيح ،قال تعالى:{ ولو جاءتهم كل آية}[ يونس: 97] وقال:{ ثم كلي من كل الثمرات}[ النحل: 69] .وقال النابغة:
بها كلُّ ذَيَّال وخنساءَ ترعوي ***....
وتقدم عند قوله تعالى:{ وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها} في سورة[ الأنعام: 25] .
والبنَّاء: الذي يَبني وهو اسم فاعل مصوغ على زنة المبالغة للدلالة على معنى الصناعة مثل نَجَّار وقصَّار وحدَّاد .
والغواص: الذي يغوص في البحر لاستخراج محار اللؤلؤ ،وهو أيضاً مما صِيغ على وزن المبالغة للدلالة على الصناعة ،قال النابغة:
أو درّة صدفية غوَّاصها *** بَهج مَتَى يَرها يَهِلَّ ويَسْجُدِ
قال تعالى:{ ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملاً دون ذلك}[ الأنبياء: 82] .
وقد بلغت الصناعة في مُلك سليمان مبلغاً من الإِتقان والجودة والجلال ،وناهيك ببناء هيكل أورشليم وهو الذي سُمي في الإِسلام المسجد الأقصى وما جلب إليه من مواد إقامته من الممالك المجاورة له ،وكذلك الصرح الذي أقامه وأدخلت عليه فيه مملكة سبَأ .