فصل
فإذا عرف هذا فلنتكلم على الشرور المستعاذ منها في هاتين السورتين:
الشر الأول:العام في قوله:{ من شر ما خلق} .
و«ما » هاهنا موصولة ليس إلا ، والشر مسند في الآية إلى المخلوق المفعول ، لا إلى خلق الرب تعالى الذي هو فعله وتكوينه ، فإنه لا شر فيه بوجه ما ، فإن الشر لا يدخل في شيء من صفاته ، ولا في أفعاله ، كما لا يلحق ذاته تبارك وتعالى ، فإن ذاته لها الكمال المطلق ، الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه ، وأوصافه كذلك لها الكمال المطلق والجلال التام ، ولا عيب فيها ولا نقص بوجه ما ، وكذلك أفعاله كلها خيرات محضة ، لا شر فيها أصلا ، ولو فعل الشر سبحانه لاشتق له منه اسم ، ولم تكن أسماؤه كلها حسنى ، ولعاد إليه منه حكم ، تعالى ربنا وتقدس عن ذلك .
وما يفعله من العدل بعباده ، وعقوبة من يستحق العقوبة منهم:هو خير محض ؛ إذ هو محض العدل والحكمة ، وإنما يكون شرا بالنسبة إليهم ، فالشر وقع في تعلقه بهم ، وقيامه بهم ، لا في فعله القائم به تعالى ، ونحن لا ننكر أن الشر يكون في مفعولاته المنفصلة ، فإنه خالق الخير والشر .
ولكن هنا أمران ينبغي أن يكونا منك على بال:
أحدهما:أن ما هو شر ، أو متضمن للشر ، فإنه لا يكون إلا مفعولا منفصلا لا يكون وصفا له ، ولا فعلا من أفعاله .
الثاني:أن كونه شرا هو أمر نسبي إضافي ، فهو خير من جهة تعلق فعل الرب وتكوينه به ، وشر من جهة نسبته إلى من هو شر في حقه ، فله وجهان هو من أحدهما خير ، وهو الوجه الذي نسب منه إلى الخالق سبحانه وتعالى خلقا وتكوينا ومشيئة ، لما فيه من الحكم البالغة التي استأثر بعلمها ، وأطلع من شاء من خلقه على ما شاء منها ، وأكثر الناس تضيق عقولهم عن مبادئ معرفتها ، فضلا عن حقيقتها ، فيكفيهم الإيمان المجمل بأن الله سبحانه هو الغني الحميد ، وفاعل الشر لا يفعله لحاجته المنافية لغناه ، أو لنقصه وعيبه المنافي لحمده ، فيستحيل صدور الشر من الغني الحميد فعلا ، وإن كان هو الخالق للخير والشر .
فقد عرفت أن كونه شرا هو أمر إضافي ، وهو في نفسه خير من جهة نسبته إلى خالقه ومبدعه ، فلا تغفل عن هذا الموضع ؛ فإنه يفتح لك بابا عظيما من معرفة الرب ومحبته . ويزيل عنك شبهات حارت فيها عقول أكثر الفضلاء .
وقد بسطت هذا في كتاب «التحفة المكية » ، وكتاب «الفتح القدسي » ، وغيرهما ، وإذا أشكل عليك هذا فأنا أوضحه لك بأمثلة:
أحدها:أن السارق إذا قطعت يده فقطعها شر بالنسبة إليه ، وخير محض بالنسبة إلى عموم الناس ، لما فيه من حفظ أموالهم ، ودفع الضرر عنهم ، وخير بالنسبة إلى متولي القطع أمرا وحكما ، لما في ذلك من الإحسان إلى عبيده عموما بإتلاف هذا العضو المؤذي لهم ، المضر بهم ، فهو محمود على حكمه بذلك ، وأمره به مشكور عليه ، يستحق عليه الحمد من عباده ، والثناء عليه والمحبة له .
وكذلك الحكم بقتل من يصول عليهم في دمائهم وحرماتهم ، وجلد من يصول عليهم في أعراضهم فإذا كان هذا عقوبة من يصول عليهم في دنياهم ، فكيف عقوبة من يصول على أديانهم ، ويحول بينهم وبين الهدى الذي بعث الله به رسله ، وجعل سعادة العباد في معاشهم ومعادهم منوطة به ؟ أفليس في عقوبة هذا الصائل خير محض ، وحكمة وعدل ، وإحسان إلى العبيد ؟ وهي شر بالنسبة إلى الصائل الباغي .
فالشر:ما قام به من تلك العقوبة ، وأما ما نسب إلى الرب منها من المشيئة والإرادة والفعل فهو عين الخير والحكمة .
فلا يغلظ حجابك عن فهم هذا النبأ العظيم ، والسر الذي يطلعك على مسألة القدر ، ويفتح لك الطريق إلى الله ، ومعرفة حكمته ورحمته ، وإحسانه إلى خلقه ، وأنه سبحانه:كما أنه البر الرحيم الودود المحسن ، فهو الحكيم الملك العدل ، فلا تناقض حكمته رحمته ؛ بل يضع رحمته وبره وإحسانه موضعه ، ويضع عقوبته وعدله وانتقامه وبأسه موضعه ، وكلاهما مقتضى عزته وحكمته وهو العزيز الحكيم ، فلا يليق بحكمته أن يضع رضاه ورحمته موضع العقوبة والغضب ، ولا يضع غضبه وعقوبته موضع رضاه ورحمته .
ولا يلتفت إلى قول من غلظ حجابه عن الله تعالى:أن الأمرين بالنسبة إليه على حد سواء ، ولا فرق أصلا ، وإنما هو محض المشيئة بلا سبب ولا حكمة .
وتأمل القرآن من أوله إلى آخره كيف تجده كفيلا بالرد على هذه المقالة ، وإنكارها أشد الإنكار ، وتنزيه نفسه عنها ، كقوله تعالى:{ أفنجعل المسلمين كالمجرمين * ما لكم كيف تحكمون} [ القلم:36 .35] ، وقوله:{ أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون}[ الجاثية:21] ، وقوله:{ أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار} [ ص:28] فأنكر سبحانه على من ظن هذا الظن السيء ، ونزه نفسه عنه .
فدل على أنه مستقر في الفطر والعقول السليمة:أن هذا لا يكون ولا يليق بحكمته وعزته وإلهيته ، لا إله هو ، تعالى عما يقول الجاهلون علوا كبيرا .
وقد فطر الله عقول عباده على استقباح وضع العقوبة والانتقام في موضع الرحمة والإحسان ، ومكافأة الصنع الجميل بمثله وزيادة . فإذا وضع العقوبة موضع ذلك استنكرته فطرهم وعقولهم أشد الاستنكار ، واستهجنته أعظم الاستهجان .
وكذلك وضع الإحسان والرحمة والإكرام في موضع العقوبة والانتقام ، كما إذا جاء إلى من يسيء إلى العالم بأنواع الإساءة في كل شيء ، من أموالهم وحريمهم ودمائهم ، فأكرمه غاية الإكرام ، ورفعه وكرمه ، فإن الفطر والعقول تأبى استحسان هذا ، وتشهد على سفه من فعله ، هذه فطرة الله التي فطر الناس عليها .
فما للعقول والفطر لا تشهد حكمته البالغة ، وعزته وعدله في وضع عقوبته في أولى المحال بها ، وأحقها بالعقوبة ؟ وأنها لو أوليت النعم لم تحسن بها ، ولم تلق ، ولظهرت مناقضة الحكمة ، كما قال الشاعر:
نعمة الله لا تعاب ، ولكن *** ربما استقبحت على أقوام
فهكذا نعم الله لا تليق ولا تحسن ولا تجمل بأعدائه الصادين عن سبيله ، الساعين في خلاف مرضاته ، الذين يرضون إذا غضب ، ويغضبون إذا رضي ، ويعطلون ما حكم به ، ويسعون في أن تكون الدعوة لغيره ، والحكم لغيره ، والطاعة لغيره ، فهم مضادون في كل ما يريد ، يحبون ما يبغضه ويدعون إليه ، ويبغضون ما يحبه ، وينفرون عنه ، ويوالون أعداءه ، وأبغض الخلق إليه ، ويظاهرونهم عليه ، وعلى رسوله:كما قال تعالى:{ وكان الكافر على ربه ظهيرا} [ الفرقان:55] ، وقال:{ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو} [ الكهف:50] ، فتأمل ما تحت هذا الخطاب الذي يسلب الأرواح حلاوة وعقابا وجلالة وتهديدا كيف صدره بإخبارنا أنه أمر إبليس بالسجود لأبينا فأبى ذلك ، فطرده ولعنه ، وعاداه من أجل إبائه عن السجود لأبينا ، ثم أنتم توالونه من دوني ، وقد لعنته وطردته ، إذ لم يسجد لأبيكم ، وجعلته عدوا لكم ولأبيكم ، فواليتموه وتركتموني ، فليس هذا من أعظم الغبن ، وأشد الحسرة عليكم ؟ ويوم القيامة يقول تعالى:«أليس عدلا مني أن أولي كل رجل منكم ما كان يتولى في دار الدنيا ؟ » .
فليعلمن أولياء الشيطان:كيف حالهم يوم القيامة:إذا ذهبوا مع أوليائهم ، وبقي أولياء الرحمن لم يذهبوا مع أحد ، فيتجلى لهم ويقول:«ألا تذهبون حيث ذهب الناس ؟ فيقولون:فارقنا الناس أحوج ما كنا إليهم ، وإنما ننتظر ربنا الذي كنا نتولاه ونعبده ، فيقول:هي بينكم وبينه علامة تعرفونه بها ؟ فيقولون:نعم ، إنه لا مثل له ، فيتجلى لهم ويكشف عن ساق ، فيخرون له سجدا » .
فيا قرة عيون أوليائه بتلك الموالاة ، ويا فرحهم إذا ذهب الناس مع أوليائهم ، وبقوا مع مولاهم الحق ، فسيعلم المشركون به الصادون عن سبيله أنهم ما كانوا أولياءه:{ إن أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون} [ الأنفال:34] .
ولا تستطل هذا البساط فما أحوج القلوب إلى معرفته وتعقله ، ونزولها منه منازلها في الدنيا لتنزل في جوار ربها في الآخرة ، الذين أنعم الله تعالى عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، وحسن أولئك رفيقا .
فصل
إذا عرفت هذا عرف معنى قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:«لبيك وسعديك ، والخير في يديك ، والشر ليس إليك » ، وإن معناه أجل وأعظم من قول من قال:والشر لا يتقرب به إليك ، وقول من قال:والشر لا يصعد إليك ، وأن هذا الذي قالوه - وإن تضمن تنزيهه عن صعود الشر إليه ، والتقرب به إليه - فلا يتضمن تنزيهه في ذاته وصفاته وأفعاله عن الشر ، بخلاف لفظ المعصوم الصادق المصدق ، فإنه يتضمن تنزيهه في ذاته تبارك وتعالى عن نسبة الشر إليه بوجه ما ، لا في صفاته ، ولا في أفعاله ، ولا في أسمائه ، وإن دخل في مخلوقاته كقوله:{ قل أعوذ برب الفلق * من شر ما خلق} .
وتأمل طريقة القرآن في إضافة الشر تارة إلى سببه ومن قام به ، كقوله:{ والكافرون هم الظالمون} [ البقرة:254] ، وقوله:{ والله لا يهدي القوم الفاسقين} [ المائدة:108] ، وقوله:{ فبظلم من الذين هادوا} [ النساء:160] ، وقوله:{ ذلك جزيناهم ببغيهم} [ الأنعام:146] ، وقوله:{ وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين} [ الزخرف:76] ، وهو في القرآن أكثر من أن يذكر هاهنا عشر معشاره ، وإنما المقصود التمثيل .
وتارة بحذف فاعله ، كقوله تعالى حكاية عن مؤمني الجن:{ وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا} [ الجن:10] ، فحذفوا فاعل الشر ومريده ، وصرحوا بمريد الرشد .
ونظيره في الفاتحة:{ صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} [ الفاتحة:7] ، فذكر النعمة مضافة إليه سبحانه ، والضلال منسوبا إلى من قام به ، والغضب محذوفا فاعله .
ومثله قول الخضر في السفينة:{ فأردت أن أعيبها} [ الكهف:79] ، وفي الغلامين:{ فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك} [ الكهف:82] ، ومثله قوله:{ ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان} [ الحجرات:7] ، فنسب هذا التزيين المحبوب إليه ، وقال:{ زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين} [ آل عمران:14] ، فحذف الفاعل المزين ، ومثله قول الخليل صلى الله عليه وسلم:{ الذي خلقني فهو يهدين * والذي هو يطعمني ويسقين * وإذا مرضت فهو يشفين * والذي يميتني ثم يحيين * والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين} [ الشعراء:78 .82] ، فنسب إلى ربه كل كمال من هذه الأفعال ، ونسب إلى نفسه النقص منها ، وهو المرض والخطيئة .
وهذا كثير في القرآن الكريم ، ذكرنا منه أمثلة كثيرة في كتاب «الفوائد المكية » ، وبينا هناك السر في مجيء:{ الذين آتيناهم الكتاب} [ البقرة:121] ، و{ الذين أوتوا الكتاب} [ البقرة:101] ، والفرق بين الموضعين ، وأنه حيث ذكر الفاعل كان من آتاه الكتاب واقعا في سياق المدح . وحيث حذفه كان من أوتيه واقعا في سياق الذم أو منقسما . وذلك من أسرار القرآن الكريم .
ومثله:{ ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا} [ فاطر:32] ، وقال:{ وإن الذين أوتوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب} [ الشورى:14] ، وقال:{ فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى} [ الأعراف:169] .
وبالجملة:فالذي يضاف إلى الله تعالى كله خير وحكمة ومصلحة ، وعدل ، والشر ليس إليه .
فصل
وقد دخل في قوله تعالى:{ من شر ما خلق} الاستعاذة من كل شر في أي مخلوق قام به الشر:من حيوان ، أو غيره ، إنسيا كان أو جنيا ، أو هامة أو دابة أو ريحا ، أو صاعقة ، أي نوع كان من أنواع البلاء .
فإن قلت:فهل في «ما » هاهنا عموم ؟
قلت:فيها عموم تقييدي وصفي ، لا عموم إطلاقي ، والمعنى:من شر كل مخلوق فيه شر ، فعمومها من هذا الوجه ، وليس المراد الاستعاذة من شر كل ما خلقه الله تعالى ، فإن الجنة وما فيها ليس فيها شر ، وكذلك الملائكة والأنبياء ، فإنهم خير محض ، والخير كله حصل على أيديهم ، فالاستعاذة من شر ما خلق:تعم شر كل مخلوق فيه شر ، وكل شر في الدنيا والآخرة ، وشر شياطين الإنس والجن ، وشر السباع والهوام ، وشر النار والهواء ، وغير ذلك .
وفي «الصحيح » عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«من نزل منزلا فقال:أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق ، لم يضره شيء ، حتى يرتحل منه » رواه مسلم .
وروى أبو داود في «سننه » عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر فأقبل الليل ، قال:«يا أرض ، ربي وربك الله ، أعوذ بالله من شرك ، وشر ما فيك ، وشر ما خلق فيك ، وشر ما يدب عليك ، أعوذ بالله من أسد وأسود ، ومن الحية والعقرب ، ومن ساكن البلد ، ومن والد وما ولد » .
وفي الحديث الآخر:«أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر ،:من شر ما خلق ، وذرأ وبرأ ، ومن شر ما نزل من السماء وما يعرج فيها ، ومن شر ما ذرأ في الأرض وما يخرج منها ، ومن شر فتن الليل والنهار ، ومن شر كل طارق ، إلا طارقا يطرق بخير ، يا رحمن » .