هؤلاء هم أعلى الطبقات وأكرمها على الإطلاق . وهم المرسلون . فأكرم الخلق على الله ، وأخصهم بالزلفى لديه:هم رسله . وهم المصطفون من عباده الذين سلم عليهم في العالمين ، كما قال تعالى:{ وسلام على المرسلين} [ الصافات:181] وقال تعالى:{ سلام على نوح في العاليين} [ الصافات:79] وقال تعالى:{ سلام على إبراهيم * كذلك نجزي المحسنين} [ الصافات:109 . 110] وقال تعال:{ سلام على إل ياسين} [ الصافات:130] .
وقال في «بدائع الفوائد »:
هل السلام من الله ؟ فيكون المأمور به:الحمد والوقف التام عليه ، أو هو داخل في القول والأمر بهما جميعا ؟
فالجواب عنه:أن الكلام يحتمل الأمرين . ويشهد لكل منهما ضرب من الترجيح . فيرجح كونه داخلا في جملة القول بأمور:
منها:اتصاله به ، وعطفه عليه من غير فاصل . وهذا يقتضي أن يكون فعل القول واقعا على كل واحد منهما . هذا هو الأصل ، ما لم يمنع منه مانع .
ولهذا إذا قلت:قل:الحمد لله ، وسبحان الله فإن التسبيح هنا داخل في المقول .
ومنها:أنه إذا كان معطوفا على المقول . كان عطف خبر على خبر ، وهو الأصل . ولو كان منقطعا عنه . كان عطف جملة خبرية على جملة الطلب ، وليس بالحسن عطف الخبر على الطلب .
ومنها:أن قوله{ قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى} ظاهر في أن المسلم هو القائل:الحمد لله . ولهذا أتى بالضمير بلفظ الغيبة ، ولم يقل:سلام على عبادي .
ويشهد لكون السلام من الله تعالى أمور:
أحدها:مطابقته لنظائره في القرآن من سلامه تعالى بنفسه على عباده الذين اصطفى ، كقوله:{ سلام على نوح في العالمين} [ الصافات:79] وقوله:{ سلام على إبراهيم} [ الصافات:109] وقوله:{ سلام على موسى وهارون} [ الصافات:120] وقوله:{ سلام على إل ياسين}[ الصافات:130] .
والثاني:أن عباده الذين اصطفى:هم المرسلون . والله سبحانه يقرن بين تسبيحه لنفسه وسلامه عليهم . وبين حمده لنفسه وسلامه عليهم .
أما الأول:فقال تعالى:{ سبحان ربك رب العزة عما يصفون * وسلام على المرسلين} [ الصافات:181 . 182] وقد ذكر تنزيهه لنفسه عما لا يليق بجلاله ، ثم سلام على رسله ، وفي اقتران السلام عليهم بتسبيحه لنفسه سر عظيم من أسرار القرآن يتضمن الرد على كل مبطل ومبتدع ، فإنه نزه نفسه تنزيها مطلقا ، كما نزه نفسه عما يقول خلقه فيه ، ثم سلم على المرسلين . وهذا يقتضي سلامتهم من كل ما يقول المكذبون لهم ، المخالفون لهم . وإذا سلموا من كل ما رماهم به أعداؤهم لزم سلامة كل ما جاءوا به من الكذب والفساد .
وأعظم ما جاءوا به:التوحيد ومعرفة الله ، ووصفه بما يليق بجلاله مما وصف به نفسه على ألسنتهم . وإذا سلم ذلك من الكذب والمحال والفساد:فهو الحق المحض . وما خالفه:هو الباطل ، والكذب المحال .
وهذا المعنى بعينه في قوله ،{ قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى} فإنه يتضمن حمده بما له من نعوت الكمال وأوصاف الجلال ، والأفعال الحميدة ، والأسماء الحسنى وسلامة رسله من كل عيب ونقص وكذب . وذلك يتضمن سلامة ما جاءوا به من كل باطل .
فقابل هذا السر في اقتران السلام على رسله بحمده وتسبيحه . فهذا يشهد بكون السلام هنا من الله تعالى ، كما هو في آخر الصافات .
وأما عطف الخبر على الطلب فما أكثره . فمنه قوله تعالى:{ قال رب احكم بالحق وربنا الرحمن المستعان} [ الأنبياء:112] وقوله:{ وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين} [ المؤمنون:118] وقوله:{ ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين} [ الأعراف:89] ونظائره كثيرة جدا .
وفصل الخطاب في ذلك:أن يقال الآية تتضمن الأمرين جميعا ، وتنتظمهما انتظاما واحدا . فإن الرسول هو المبلغ عن الله كلامه ، وليس فيه إلا البلاغ ، والكلام كلام الرب تبارك وتعالى ، فهو الذي حمد نفسه ، وسلم على صفوة عباده ، وأمر رسوله بتبليغ ذلك .
فإذا قال الرسول:الحمد لله ، وسلام على عباده الذي اصطفى كأن قد حمد الله وسلم على عباده بما حمد به نفسه وسلم به هو على عباده . فهو سلام من الله ابتداء ، ومن المبلغ بلاغا ومن العباد:اقتداء وطاعة .
فنحن نقول كما أمرنا ربنا تبارك وتعالى:{ الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى} .
وكلمة «السلام » هنا تحتمل أن تكون داخلة في حيز القول . فتكون معطوفة على الجملة الخبرية ، وهي «الحمد لله » ويكون الأمر بالقول متناولا للجملتين معا .
وعلى هذا فيكون الوقف على الجملة الأخيرة . ويكون محلها النصب ، محكيه بالقول .
ويحتمل أن تكون جملة مستأنفة مستقلة ، معطوفة على جملة الطلب وعلى هذا:فلا محل لها من الإعراب . وهذا التقدير أرجح .
وعليه يكون السلام من الله عليهم ، وهو المطابق لما تقدم من سلامه سبحانه وتعالى على رسله عليهم السلام .
وعلى التقدير الأول:يكون أمر بالسلام عليهم ، ولكن يقال على هذا:كيف يعطف الخبر على الطلب ، مع تنافر ما بينهما ؟ فلا يحسن أن يقال:قم وذَهَب زيد ، ولا أخرج وقَعَد عمرو .
ويجاب على هذا:بأن جملة الطلب قد حكيت بجملة خبرية ، ومع هذا لا يمتنع العطف فيه بالخبر على الجملة الطلبية . لعدم تنافر الكلام فيه وتباينه وهذا نظير قوله تعالى:{ قل انظروا ماذا في السموات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون} [ يونس:101] .
فقوله تعالى:{ وما تغني الآيات} ليس معطوفا على القول وهو{ نظروا} بل معطوف على الجملة الكبرى ، على أن عطف الخبر على الطلب كثير ، كقوله تعالى:{ قال رب احكم بالحق وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون} [ الأنبياء:112] وقوله تعالى:{ وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين} [ المؤمنون:118]
والمقصود:أنه على هذا القول:يكون الله سبحانه وتعالى قد سلم على المصطفين من عباده ، والرسل أفضلهم . وقد أخبر سبحانه وتعالى:أنه أخلصهم كما قال:{ إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار * وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار} [ ص:46 . 47] ويكفي في شرفهم وفضلهم:أن الله سبحانه وتعالى اختصهم بوحيه . وجعلهم أمناء على رسالته ، وواسطة بينه وبين عباده ، وخصهم بأنواع كراماته ، فمنهم من اتخذه خليلا . ومنهم من كلمه تكليما ، ومنهم من رفعه مكانا عليا على سائرهم درجات ولم يجعل لعباده طريقا للوصول إليه إلا من طريقهم ، ولا دخولا إلى جنته إلا خلفهم .