ولما كان الغل مانعا للمغلول من التصرف والتقلب كان الغل الذي على القلب مانعا من الإيمان .
فإن قيل:فالغل المانع من الإيمان هو الذي في القلب ، فكيف ذكر الغل الذي في العنق ؟ .
قيل:لما كان عادة الغل أن يوضع في العنق ناسب ذكر محله والمراد به القلب . كقوله تعالى:{ وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه} [ الإسراء:13] ومن هذا قولهم:أثمى في عنقك . وهذا في عنقك . ومن هذا قوله:{ ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك} [ الإسراء:29] شبه الإمساك عن الإنفاق باليد إذا غلت إلى العنق .
ومن هذا قال الفراء:{ إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا}:حبسناهم عن الإنفاق .
قال أبو إسحاق:إنما يقال للشيء اللازم:هذا في عنق فلان ، أي لزومه كلزوم القلادة من بين ما يلبس في العنق . قال أبو علي:هذا مثل قولهم:طوقتك كذا ، وقلدتك كذا . ومنه:قلده السلطان كذا ، أي صارت الولاية في لزومها له في موضع القلادة ، ومكان الطوق .
قلت:ومن هذا قولهم:قلدت فلانا حكم كذا وكذا . كأنك جعلته طوقا في عنقه . وقد سمى الله التكاليف الشاقة أغلالا في قوله:{ ويضع عنهم أصرهم والأغلال التي كانت عليهم} [ الأعراف:157] فشبهها بالأغلال لشدتها وصعوبتها . قال الحسن:هي الشدائد التي كانت في العبادة . كقطع أثر البول والنجاسة ، وقتل النفس في التوبة . وقطع الأعضاء الخاطئة . وتتبع العروق من اللحم .
وقال ابن قتيبة:هي تحريم الله سبحانه عليهم كثيرا مما أطلقه لأمة محمد صلى الله عليه وسلم وجعلها أغلالا لأن التحريم يمنع ، كما يقبض الغل اليد .
وقوله{ فهي إلى الأذقان}:
قالت طائفة:الضمير يعود إلى الأيدي ، وإن لم تذكر ؛ لدلالة السياق عليها .
قالوا:لأن الغل يكون في العنق فتجمع إليه اليد . ولذلك سمي «جامعة » .
وعلى هذا فالمعنى:فأيديهم ، أو فأيمانهم مضمومة إلى أذقانهم . هذا قول الفراء والزجاج .
وقالت طائفة:الضمير يرجع إلى الأغلال . وهذا هو الظاهر . وقوله:{ فهي إلى الأذقان} أي واصلة وملزومة إليها ، فهو غل عريض قد أحاط بالعنق حتى وصل إلى الذقن .
وقوله{ فهم مقمحون}:
قال الفراء والزجاج:المقمح:هو الغاض بصره بعد رفع رأسه . ومعنى الأقماح في اللغة رفع الرأس وغض البصر . يقال:أقمح البعير رأسه ، وقمح .
وقال الأصمعي:بعير قامح إذا رفع رأسه عن الحوض ولم يشرب . قال الأزهري:لما غلت أيديهم إلى أعناقهم رفعت الأغلال أذقانهم ورؤوسهم صعدا كالإبل الرافعة رءوسها انتهى .
فإن قيل:فما وجه التشبيه بين هذا وبين حبس القلب عن الهدى والإيمان ؟
قيل:أحسن وجه وأبينه . فإن الغل إذا كان في العنق واليد . مجموعة إليها منع اليد عن التصرف والبطش . فإذا كان عريضا قد ملأ العنق ووصل إلى الذقن منع الرأس من تصويبه . وجعل صاحبه شاخص الرأس منتصبه ، لا يستطيع له حركة .