تأمل قوله ، كيف تجد تحته معنى بديعا ؟ وهو أنهم إذا دخلوا الجنة لم تغلق أبوابها عليهم ، بل تبقى مفتحة كما هي . وأما النار فإذا دخلها أهلها أغلقت عليهم أبوابها . كما قال تعالى:{ إنها عليهم مؤصدة} [ الهمزة:8] أي مطبقة مغلقة . ومنه سمي الباب:«وصيدا » . وهي{ مؤصدة * في عمد ممددة} قد جعلت العمد ممسكة للأبواب من خلفها . كالحجر العظيم الذي يجعل خلف الباب .
قال مقاتل:يعني أبوابها عليهم مطبقة . فلا يفتح لها باب ، ولا يخرج منها غم . ولا يدخل فيها روح آخر الأبد .
وأيضا فإن في تفتيح الأبواب لهم إشارة إلى تصرفهم وذهابهم وإيابهم وتبوئهم في الجنة حيث شاءوا ، ودخول الملائكة عليهم كل وقت بالتحف والألطاف من ربهم ، ودخول ما يسرهم عليهم كل وقت .
وأيضا إشارة إلى أنها دار أمن ، لا يحتاجون فيها إلى غلق الأبواب ، كما كانوا يحتاجون إلى ذلك في الدنيا .
وقد اختلف أهل العربية في الضمير العائد من الصفة على الموصوف في هذه الجملة .
فقال الكوفيون:التقدير مفتحة لهم أبوابها . والعرب تعاقب بين الألف واللام والإضافة ، فيقولون:مررت برجل حسن العين ، أي عينه . ومنه قوله تعالى:{ فإن الجحيم هي المأوى} [ النازعات:39] أي مأواه . وقال بعض البصريين:التقدير مفتحة لهم الأبواب منها . فحذف الضمير وما اتصل به . وقال:هذا التقدير في العربية أجود من أن يجعل الألف واللام بدلا من الهاء والألف ؛ لأن معنى الألف واللام ليس من معنى الهاء والألف في شيء ؛ لأن الهاء والألف اسم ، والألف واللام دخلتا للتعريف . فلا يبدل حرف من اسم ، ولا ينوب عنه .
قالوا:وأيضا لو كانت الألف واللام بدلا من الضمير لوجب أن يكون في{ مفتحة} ضمير ، للجنات ، ويكون معنى:مفتحة هي ، ثم أبدل منها الأبواب ، ولو كان كذلك لوجب نصب الأبواب ، لكون{ مفتحة} قد رفع ضمير الفاعل فلا يجوز أن يرفع به اسم آخر ، لامتناع ارتفاع فاعلين بفعل واحد . فلما ارتفع{ الأبواب} دل على أن{ مفتحة} خال من ضمير ، و{ الأبواب} مرتفعة به .
وإذا كان في الصفة ضمير تعين نصب الثاني ، كما تقول:«مررت برجل حسن الوجه » . ولو رفعت الوجه ونونت «حسنا » لم يجز .
فالألف واللام إذا للتعريف ليس إلا . فلا بد من ضمير يعود على الموصوف الذي هو{ جنات عدن} ولا ضمير في اللفظ . فهو محذوف ، تقديره:الأبواب منها .
وعندي أن هذا غير مبطل لقول الكوفيين . فإنهم لم يريدوا بالبدل إلا أن الألف واللام خلف وعوض عن الضمير تغني عنه . وإجماع العرب على قولهم:«حسن الوجه » ، و«حسن وجهه »:شاهد بذلك .
وقد قالوا:إن التنوين بدل من الألف واللام ، بمعنى أنهما لا يجتمعان ، وكذلك المضاف إليه يكون بدلا من التنوين والتنوين بدل من الإضافة بمعنى التعاقب والتوارد . ولا يريدون بقولهم:هذا بدل من هذا:أن معنى البدل معنى المبدل منه ، بل قد يكون في كل منهما معنى لا يكون في الآخر .
فالكوفيون أرادوا أن الألف واللام في{ الأبواب} أغنت عن الضمير لو قيل:أبوابها ، وهذا صحيح . فإن المقصود الربط بن الصفة والموصوف بأمر يجعلها له لا مستقلة ، فلما كان الضمير عائدا على الموصوف نفي توهم الاستقلال ، وكذلك لام التعريف فإن كلا من الضمير واللام يعين صاحبه ، هذا يعين مفسره وهذا يعين ما دخل عليه . وقد قالوا في:«زيد نعم الرجل »:أن الألف واللام أغنت عن الضمير . والله أعلم .
وقد أعرب الزمخشري هذه الآية إعرابا اعترض عليه فيه . فقال:{ جنات عدن} معرفة كقوله:{ جنات عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب} [ مريم:61] وانتصابها على أنها عطف بيان:{ لحسن مآب} ( ص:49 ) و«مفتحة » حال ، والعالم فيها ما في «المتقين » من معنى الفعل . وفي «مفتحة » ضمير الجنات ، والأبواب بدل من الضمير ، تقديره:مفتحة هي الأبواب ، كقولهم:ضرب زيد اليد والرجل وهو من بدل الاشتمال . هذا إعرابه .
فاعترض عليه أن{ جنات عدن} ليس فيها ما يقتضي تعريفها . وأما قوله:{ التي وعد الرحمن عباده} فبدل لا صفة . وبأن{ جنات عدن} لا يسهل أن تكون عطف بيان{ لحسن مآب} ، على قوله . لأن جريان المعرفة على النكرة عطف بيان لا قائل به . فإن القائل قائلان:
أحدهما:أنه لا يكون إلا في المعارف ، كقول البصريين .
والثاني:أنه يكون في المعارف والنكرات بشرط المطابقة ، كقول الكوفيين وأبي على الفارسي .
وقوله:أن في{ مفتحة} ضمير الجنات . فالظاهر خلافه . فإن الأبواب مرتفع به ولا ضمير فيه .
وقوله:إن{ الأبواب} بدل اشتمال . فبدل الاشتمال قد صرح هو وغيره:أنه لا بد فيه من الضمير . وإن نازعهم فيه آخرون ، ولكن يجوز أن يكون الضمير ملفوظا به . وأن يكون مقدرا . وهاهنا لم يلفظ به . فلا بد من تقدير ، أي الأبواب منها . فإذا كان التقدير:مفتحة لهم هي الأبواب منها:كان فيه تكثير للإضمار وتقليله أولى .