فأخبر سبحانه عن فعلهم ، وهو الانصراف ، وعن فعله فيهم ، وهو صرف قلوبهم عن القرآن وتدبره ؛ لأنهم ليسوا أهلا لها ، فالمحل غير صالح ولا قابل ، فإن صلاحية المحل بشيئين:حسن فهم ، وحسن قصد ، وهؤلاء قلوبهم لا تفقه ، وقصودهم سيئة ، وقد صرح سبحانه بهذا في قوله:{ ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون} [ الأنفال:23] فأخبر سبحانه عن عدم قابلية الإيمان فيهم ، وأنهم لا خير فيهم يدخل بسببه إلى قلوبهم فلم يسمعهم سماع إفهام ينتفعون به ، وإن سمعوه سماعا تقوم به عليهم حجته فسماع الفهم الذي سمعه به المؤمنون لم يحصل لهم ، ثم أخبر سبحانه عن مانع آخر قام بقلوبهم ، يمنعهم من الإيمان لو أسمعهم ، هذا السماع الخاص ، وهو الكبر والتولي والإعراض .
فالأول:مانع من الفهم .
والثاني:مانع من الانقياد والإذعان ، فإفهام سيئة وقصودهم رديئة وهذه سمة الضلال وعلم الشقاء ، كما أن نسخة الهدى وعلم السعادة فهم صحيح ، وقصد صالح . والله المستعان .
وتأمل قوله سبحانه:{ ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم} كيف جعل هذه الجملة الثانية سواء كانت خبرا أو إعادة - عقوبة لانصرافهم فعاقبهم عليه بصرف آخر غير الصرف الأول . فإن انصرافهم كان لعدم إرادته سبحانه ومشيئته لإقبالهم ؛ لأنه لا صلاحية فيهم ولا قبول ، فلم ينلهم الإقبال والإذعان ، فانصرفت قلوبهم بما فيها من الجهل والظلم عن القرآن . فجازاهم على ذلك صرفا آخر غير الصرف الأول ، كما جازاهم على زيغ قلوبهم عن الهدى إزاغة غير الزيغ الأول ، كما قال:{ فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} [ الصف:5] وهكذا إذا أعرض العبد عن ربه سبحانه جازاه بأن يعرض عنه ، فلا يمكنه من الإقبال عليه ، ولتكن قصة إبليس منك على ذكر تنتفع بها أتم انتفاع ، فإنه لما عصى ربه تعالى ولم ينقد لأمره وأصر على ذلك عاقبة بأن جعله داعيا إلى كل معصية . فعاقبه على معصيته الأولى بأن جعله داعيا إلى كل معصية وفروعها ، صغيرها وكبيرها ، وصار هذا الإعراض والكفر منه عقوبة لذلك الإعراض والكفر السابق ، فمن عقاب السيئة السيئة بعدها ، كما أن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها .
فإن قيل:فكيف يلتئم إنكاره سبحانه عليهم الانصراف والإعراض عنه وقد قال تعالى:{ فأنى يصرفون} و{ أنى يؤفكون} وقال:{ فما لهم عن التذكرة معرضين} فإذا كان هو الذي صرفهم وجعلهم معرضين ومأفوكين ، فكيف ينعى ذلك عليهم ؟
قيل:هم دائرون بين عدله وحجته عليهم ، فمكنهم وفتح لهم الباب ، ونهج لهم الطريق ، وهيأ لهم الأسباب ، فأرسل إليهم رسله ، وأنزل عليهم كتبه ، ودعاهم على ألسنة رسله ، وجعل لهم عقولا تميز بين الخير والشر ، والنافع والضار ، وأسباب الردي وأسباب الفلاح ، وجعل لهم أسماعا وأبصارا ، فآثروا الهوى على التقوى ، واستحبوا العمى على الهدى ، وقالوا:معصيتك آثر عندنا من طاعتك ، والشرك أحب إلينا من توحيدك ، وعبادة سواك أنفع لنا في دنيانا من عبادتك ، فأعرضت قلوبهم عن ربهم وخالقهم ومليكهم ، وانصرفت عن طاعته ومحبته ، فهذا عدله فيهم ، وتلك حجته عليهم ، فهم سدوا على أنفسهم باب الهدى إرادة منهم واختيارا ، فسده عليهم اضطرارا ، فخلاهم وما اختاروا لأنفسهم ، وولاهم ما تركوه ومكنهم فيما ارتضوه ، وأدخلهم من الباب الذي استبقوا إليه ، وأغلق عنهم الباب الذي تولوا عنه ، وهم معرضون:فلا أقبح من فعلهم ، ولا أحسن من فعله . ولو شاء لخلقهم على غير هذه الصفة ، ولأنشأهم على غير هذه النشأة ، ولكنه سبحانه خالق العلو والسفل ، والنور والظلمة ، والنافع والضار ، والطيب والخبيث والملائكة والشياطين ، والنساء والذباب ، ومعطيها آلاتها وصفاتها وقواها وأفعالها ومستعملها فيما خلقت له ، فبعضها بطباعها ، وبعضها بإرادتها ومشيئتها ، وكل ذلك جار على وفق حكمته ، وهو موجب حمده ، ومقتضى كماله المقدس ، وملكه التام ولا نسبة لما علمه الخلق من ذلك إلى ما خفي عليهم بوجه ما ، إن هو إلا كنقرة عصفور من البحر .