/م124
{ وإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} هذا بيان لحال المنافقين الذين كانوا يكونون في مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم عند نزول سورة ، وما يكون من فعلهم وقولهم عند تلاوته لها وما قبلها في بيان حالهم إذا بلغهم نزول سورة من حيث البحث عن تأثيرها ، وقد يقال:إن الأولى تشمل من سمع منه ومن بلغ عنه ، والعبرة بموضوعها ، لا بطريقة العلم بها ، وإن هذه أدل على رسوخهم في الكفر وعدم الطمع في رجوعهم عنه ، بإثباتها أنهم يكرهون سماع القرآن من الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهو أشد تأثيرا من سماعه من غيره في الهداية ، ولذلك كان المشركون يمنعونه من تلاوته على الناس لئلا يهتدوا بسماعه منه ، فإن لم يتمكنوا من إسكاته أعرضوا عن سماعه ولغوا فيه ، ومنعوا صاحبه الصديق أيضا من الصلاة في المسجد الحرام ، ثم من مسجده الخاص ، لما رأوا النساء والصبيان يجتمعون لسماع القرآن منه ، ويتأثرون بخشوعه فيه:
يقول:وإذا أنزلت سورة وهم في المجلس تسارقوا النظر ، وتغامزوا بالعيون على حين تخشع أبصار المؤمنين ، وتنحني رؤوسهم ، وتجب قلوبهم ، وترامقوا بالعيون يتشاورون في الانسلال من المجلس خفية لئلا يفتضحوا بما يظهر عليهم من الإنكار والسخرية بالوحي ، قائلا بعضهم لبعض بالإشارة أو العبارة:{ هَلْ يَرَاكُم مِّنْ أَحَدٍ} أي من الرسول والمؤمنين إذا نحن انصرفنا كارهين لسماعها .
{ ثُمَّ انصَرَفُواْ} يتسللون لواذا إلى مجامعهم الخاصة بهم ، والتعبير بثم لبيان تراخي فعلهم عن وقت لقولهم ، إلى سنوح فرصة الغفلة عنهم ولو أفرادا ، فكلما لمح أحد منهم غفلة من المؤمنين عنه انصرف .
{ صَرَفَ اللّهُ قُلُوبَهُم} هذه الجملة تحتمل الدعاء والخبر ، ومضمونها النهائي في كلام الله واحد كما تقدم نظيره قريبا .والمعنى صرف الله قلوبهم عن صدق الإيمان ، والاهتداء بآيات الله في القرآن ، المرشدة إلى آياته في الأكوان .
{ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون} أي بسبب أنهم قوم فقدوا صفة الفقاهة الفطرية وفهم الحقائق وما يترتب عليها من الأعمال ، لعدم استعمال عقولهم فيها ، فهم لا يفقهون ما يسمعون من هذه الآيات لعدم تدبرها ، والإعراض عن النظر والتأمل في معانيها ، وموافقتها للعقل ، وهدايتها إلى الحق والعدل ، ذلك بأنهم اتخذوا أنفسهم أعداء وخصوما للرسول ، فوطنوا أنفسهم على الإعراض عن كل ما جاء به من غير بحث ولا تأمل فيه:أمعقول أم غير معقول ؟ أحق أم باطل ؟ أخير أم شر ؟ أهدى أم ضلال ؟ أنافع أم ضار ؟ فأنى يرجى لهم وهذه حالهم أن يهتدوا بتعدد نزول الآيات والسور ؟ إنما مثلهم كمثل أعداء الإسلام من أهل الملل التي جروا على نظام تعليمي وتربية وجدانية عملية في عصبيتهم الدينية والقومية وارتباط منافعهم الاجتماعية والسياسية بها:لقنهم رؤساؤهم أنه يوجد دين اسمه الإسلام بني أساسه على عداوتكم لذاتكم ، فيجب عليكم أن لا تنظروا فيه إلا أن يكون للبحث عن مطعن ولو متكلف تلمزونه به ، ولا تفكروا في شيء من حال أهله في دينهم ودنياهم إلا للعداوة والتحقير لهم ، وتدبير المكايد للعدوان عليهم ، وإذا ظهر لكم شيء حسن من دينهم فوجهوا كل قواكم العقلية وبلاغتكم الكلامية إلى تشويهه وذمه والصد عنه ، وهذا ما يفعله رجال الكنائس النصرانية على اختلاف مذاهبهم كما بيناه في غير هذا الموضع .
ومن المباحث الكلامية في الآيات الخلاف في زيادة الإيمان ونقصه ، على مذهبين في إثبات ذلك ونفيه ، وجمهور السلف من الصحابة والتابعين وحفاظ السنة على الإثبات ، وهذه المسألة من أغرب مسائل عصبيات المذاهب عند النظار الجدليين ومقلديهم ، وما كان ينبغي لمسلم أن يجعل هذا موضع خلاف لبحث بعض من ينتسب إليهم في مفهوم لفظ الإيمان الذي يتحقق باعتقاده الدخول في الملة:هل يقبل الزيادة والنقصان في ذاته ؟ أم المراد من هذه الآية وما في معناها متعلق الإيمان من العقائد والأحكام التي كانت تشتمل عليها السورة ؟ واستبعاد أن يكون التصديق الذي يكون به الكافر مؤمنا قابلا للزيادة والنقصان ، وهي نظرية باطلة ، وقد بينا معنى الآية بما يدل على أن قصر زيادة الإيمان فيها على التصديق بزيادة العلم بما تضمنته باطل ، لأن هذا بديهي لا يمكن أن يكون هو الذي سأل عنه المنافقون ، ونصوص القرآن الكثيرة صريحة في زيادة الإيمان ونقصه ، وكذلك الأحاديث الصحيحة التي صرح فيها الرسول صلى الله عليه وسلم بأن أقل الإيمان -وهو المنجي من الخلود في النار- كالذرة أو الخردلة من الإيمان الكامل الذي لا يمس أهله من عذاب النار شيء ، كالذين وصفهم الله بقوله:{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وجلّتْ قُلُوبُهُمْ} [ الأنفال:2] الخ وقوله:{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [ الحجرات:15] الخ .
والتحقيق أن اليقين في الإيمان وغيره له درجات متفاوتة في القوة والضعف ، واليقين الذي يصح به الإيمان هو اليقين اللغوي ، وهو الاعتقاد الجازم في غير الحسيات والضروريات كما بيناه في مواضع أولها تفسير{ وبالآخرة هم يوقنون} [ البقرة:4] ، وهو درجات منها التقليد الجازم ، ومنها المعلوم بالنظر والاستدلال ، وقد يطرأ عليهما الشك والزوال ، ولولا ذلك ما تصور ارتداد مؤمن عن دينه ، ومنها ما يصير وجدانا ضروريا بشرح الصدر ، والنور الإلهي بكثرة الذكر والفكر والعبادة .
وأما اليقين المنطقي العلم القطعي بالبرهان بأن هذا الشيء كذا مع العلم القطعي باستحالة أن يكون غير كذا ، فهو الذي قالوا إنه لا يقبل الزيادة والنقصان ، ولكنه نادر الوقوع في غير الضروريات ، ولا تتوقف عليه صحة الإيمان ، ومع هذا يمكن أن يقال:إنه قابل للزيادة في وصفه وطمأنينة القلب به ، وفي ترتيب آثاره عليه .ومثال الأول أن ترى شبحا في سدفة الفجر فتعلم أنه إنسان في انتصاب قامته ، ثم تزداد علما به كلما انتشر الضياء ، حتى يكون العلم به تفصيليا .والبرهان المنطقي المفيد لهذا اليقين عندهم لا تكون مقدماته النظرية في درجة الضروريات قوة وثباتا .وقد قسم بعضهم اليقين إلى ثلاث درجات:علم اليقين وهو ما يعلم بالدليل ، وعين اليقين وهو ما يكون بالمشاهدة والكشف ، وحق اليقين وهو ما يكون بالذوق والوجدان .ومثل لها بعضهم بالفناء عند الصوفية ، وبعضهم بالموت ، فكل أحد عنده علم اليقين بأنه يموت ، فإذا عاين ملائكة الموت عند الحشرجة وقبل قبض الروح كان عين اليقين ، فإذا مات بالفعل وصل إلى درجة حق اليقين ، لكن هذه الدرجة وما قبلها لا يتعلق بهما بالتكليف .