/م128
{ لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ} جمهور المفسرين على أن الخطاب هنا للعرب ، فهو في معنى قوله:{ هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم} [ الجمعة:2] ، فالمنة به صلى الله عليه وسلم على قومه أعظم ، والحجة عليهم به وبكتابه أنهض ، وأخص قومه به قبيلة قريش ، فعشيرته الأقربون بنو هاشم وبنو المطلب ، ولو لم يؤمن به وبكتابه العرب لما آمن العجم ، وهو مبعوث إلى جميع الناس كما تقدم في قوله:{ قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا} [ الأعراف:158 ، ولكنه وجه دعوته إلى الأقرب فالأقرب على القاعدة التي بيناها آنفا في قتال الأقرب فالأقرب ، فالعرب آمنوا بدعوته مباشرة ، والعجم آمنوا بدعوة العرب ، العرب آمنوا بفهم القرآن وبيانه صلى الله عليه وسلم له بالتبليغ والعمل ، وبما شاهدوا من آيات الله تعالى في شخصه ، والعجم آمنوا بدعوة العرب ، وما شاهدوا من عدلهم وفضائلهم ، ثم بدعوة بعضهم لبعض بعد انتشار الإسلام فيهم .
وقال الزجاج:إن الخطاب للعالم كله لعموم بعثته ، فيكون بمعنى ما يأتي في أول السورة التالية{ أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم} [ يونس:2] الخ ، ولكن آية أول سورة يونس هذه في الرد على منكري كون البشر رسولا من الله ، وهو المحكي عن جميع كفار الأمم ، وآية آخر سورة براءة في امتنان الله عزّ وجلّ على من أرسل إليهم الرسول من أنفسهم وصميم قومهم ، لتأييد الحجة بالمنة ، والترغيب في إجابة الدعوة ، فإن من طبع كل قوم حب الاختصاص بالفضل والشرف على غيرهم ، كما قال تعالى في امتنانه عليه بالقرآن المجيد{ وإنه لذكر لك ولقومك} [ الزخرف:44] ، أي شرف لك ولهم ، تذكرون به في العالم ، ويدوّن لكم في التواريخ ، وإنما قاومه وعانده أكابر قومه حتى من بني هاشم أنفة واستكبارا عن اتباعه ، وهم يرونه دونهم ، ولما يتضمن اتباعه من الإقرار بكفرهم وكفر آبائهم وأجدادهم الذين يفاخرون بهم ، مع عدم ثقتهم بفوزه وبأنهم ينالون باتباعه من مجد الدنيا فوق ما كانوا عليه بمسافات تطاول السماء رفعة وشرفا ، دع ما هو فوق مجد الدنيا من سعادة الآخرة ، ثم إنهم صاروا يفتخرون بكونه صلى الله عليه وسلم منهم ، بأكثر مما يبيحه دينه لهم ، حتى صار أقربهم يتكل على نسبه فيقصر في العلم والعمل .
وقد أكد تعالى هذه المنة الخاصة بوصفه هذا الرسول بقوله:{ عزيز عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} الخ العنت المشقة ولقاء المكروه الشديد ، وقيده الراغب بما يخاف منه الهلاك ، وعزّ على فلان الأمر:ثقل واشتد عليه ، وقالوا:هو كناية عن الأنفة عنه ، وما مصدرية ، أي شديد على طبعه وشعوره القومي عنتكم ؛ لأنه منكم ، وهذا يشمل ما يكون في الدنيا وما يكون في الآخرة ، فلا يهون عليه أن يكونوا في دنياهم أمة ضعيفة ذليلة يعنتها أعداؤها بسيادتهم عليها وتحكمهم فيها ، ولا أن يكونوا في الآخرة من أصحاب النار .
{ حَرِيصٌ عَلَيْكُم} الحرص شدة الرغبة في الحصول على المفقود ، وشدة العناية بحفظ الموجود ، وكان صلى الله عليه وسلم حريصا على اهتداء قومه به بإيمان كافرهم وثبات مؤمنهم في دينه ، كما قال تعالى له:{ إن تحرص على هداهم} [ النحل:37] ، وقال:{ وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين} [ يوسف:103] .
{ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} أي شديد الرأفة والرحمة بالمؤمنين ، فكل ما يدعوهم إليه من العمل بشرائع الله تعالى فهو دليل على ثبوت هذه الصفات الكاملة والعواطف السامية له صلى الله عليه وسلم بنص الله تعالى ، وهو أرحم بالمؤمنين وأرأف ، وكل شاق منها كالجهاد فهو منجاة مما هو أشق منه ، ولا شيء من الشاق منها ببالغ حد العنت ، للقطع في هذا الدين بنفي العسر والحرج .
وصف الله تعالى رسوله بصفتين من صفاته العلى ، وسماه باسمين من أسمائه الحسنى ، بعد وصفه بوصفين هما أفضل نعوت الرؤساء والزعماء المدبرين لأمور الأمم بالحق والعدل والفضل ، وفي الصحاح والقاموس أن الرأفة أشد الرحمة .وجعلهما بعض اللغويين والمفسرين بمعنى واحد .وقال بعضهم:إن الرأفة أخص ، لا تكاد تقع في الكراهية ، والرحمة قد تقع في الكراهية للمصلحة ، واختار الرازي أنها مبالغة في رحمة مخصوصة من دفع المكروه وإزالة الضرر .وقال أستاذنا إنها لا تستعمل إلا في حق من وقع في بلاء ، اختيارا لقول الرازي ( ج 2 تفسير ) ، وأصح منه أنها تستعمل في مكان الضعف والشفقة والرقة كقولهم:رأف بولده وترأف به ، وتقديمه على الرحيم هو الواجب ، كأنه قال:رؤوف بضعفاء المؤمنين وأولي القربى منهم ، ورحيم بهم كلهم ، وتخصيص رأفته ورحمته صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين ، في مقابلة ما أمر به هو الغلظة على الكفار والمنافقين ، لا يعارض كون رسالته رحمة للعالمين ، كما هو ظاهر ، فإن هذه الرحمة مبذولة لجميع الأمم ، لعموم بعثته صلى الله عليه وسلم ، ولكن منهم من قبلها ومنهم من ردها ، وقد بينا في تفسير ( وأغلظ عليهم ) أنه إنما أمر بذلك صلوات الله تعالى عليه لأن الغالب على طبعه الشريف الرقة والرحمة والأدب في المقابلة والمعاشرة .وقد قال تعالى:{ ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك} [ آل عمران:159] .
وفي التفسير المأثور عن ابن عباس رضي الله عنه في الآية{ لقد جاءكم رسول من أنفسكم} قال:ليس من العرب قبيلة إلا وقد ولدت النبي صلى الله عليه وسلم مضريها وربيعيها ويمانيها ، يعني أن نسبه متشعب في جميع قبائل العرب وبطونها .وعنه في{ عزيز عليه ما عنتم} قال:شديد عليه ما شق عليكم .{ حريص عليكم} أن يؤمن كفاركم .
ومن القراءة الشاذة في الآية{ أنفسكم} بفتح الفاء من النفاسة ، رواها ابن مردويه من حديث علي مرفوعا ، وقرأ بها ابن عباس والزهري وابن محيصن ، ورويت عن الإمام جعفر الصادق عن أبيه الإمام محمد الباقر ، وهي خبر واحد لا يثبت بها القرآن ، وفيها أن المعهود في فصيح الكلام أن النفيس والأنفس مما يوصف به الأشياء لا الأشخاص .
/خ129