/م128
ومن العجيب أنّ جماعة من المفسّرين الذين وقعوا تحت تأثير العصبية القومية والعربية قالوا: إِنّ المخاطب في هذه الآية هم العرب !أي أنّ النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد جاءكم من هذا الأصل !.
إِنّنا نعتقد أن هذا هو أسوأ تفسير ذكر لهذه الآية ،لأنا نعلم أنّ الشيء الذي لم يجر له ذكر في القرآن الكريم هو مسألة الأصل والعرق ،ففي كل مكان تبدأ خطابات القرآن ب( يا أيّها الناس ) و ( يا أيّها الذين آمنوا ) وأمثالها ،ولا يوجد في أي مورد «يا أيّها العرب » و «يا قريش » وأمثال ذلك .
إِضافة الى أنّ ذيل الآية الذي يقول: ( بالمؤمنين رؤوف رحيم )ينفي هذا التّفسير بوضوح ،لأنّ الكلام فيه عن كل المؤمنين ،من أي قومية أو عرق كانوا .
وممّا يثير الأسف أنّ بعض العلماء المتعصبين قد حجّموا عالمية القرآن وعموميته لكل البشر ،وحاولوا حصره في حدود القومية والعرق المحدودة .
وعلى كل حال ،فبعد ذكر هذه الصفة ( من أنفسكم ) أشارت الآية إِلى أربع صفات أُخرى من صفات النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) السامية ،والتي لها الأثر العميق في إِثارة عواطف الناس وجلب انتباههم وتحريك أحاسيسهم .
ففي البداية تقول: ( عزيز عليه ماعنتم ) أي أن الأمر لا ينتهي في أنّه لا يفرح لأذاكم ومصاعبكم ،بل إِنّه لا يقف موقف المتفرج تجاه هذا الأذى ،فهو يتألم لألمكم ،وإِذا كان يصرّ على هدايتكم ويتحمل الحروب المضنية الرهيبة ،فإِنّ ذلك لنجاتكم أيضاً ،ولتخليصكم من قبضة الظلم والاستبداد والمعاصي والتعاسة .
ثمّ تضيف أنّه ( حريص عليكم ) ويتحمس لهدايتكم .
«الحرص » في اللغة بمعنى قوة وشدة العلاقة بالشيء ،واللطيف هنا أن الآية أطلقت القول وقالت: ( حريص عليكم ) فلم يرد حديث عن الهداية ،ولا عن أي شيء آخر ،وهي تشير إِلى عشقه( صلى الله عليه وآله وسلم ) لكل خير وسعادة ورقي لكم .وكما يقال: إِن حذف المتعلق دليل على العموم .
وعلى هذا ،فإنّه إذا دعاكم وسار بكم إلى ساحات الجهاد المريرة ،وإذا شدّد النكير على المنافقين ،فإِنّ كل ذلك من أجل عشقه لحريتكم وشرفكم وعزتكم .وهدايتكم وتطهير مجتمعكم .
ثمّ تشير إِلى الصفتين الثّالثة والرّابعة وتقول: ( بالمؤمنين رؤوف رحيم ) وعلى هذا فإِنّ كل الأوامر الصعبة التي يصدرها ،( حتى المسير عبر الصحاري المحرقة في فصل الصيف المقرون بالجوع والعطش لمواجهة عدو قوي في غزوة تبوك ) فإِنّ ذلك نوع من محبته ولطفه .
وهناك بحث بين المفسّرين في الفرق بين «الرؤوف » و «الرحيم » ،إلاّ أنّ الذي يبدو أن أفضل تفسير لهما هو أنّ الرؤوف إِشارة إِلى محبّة خاصّة في حقّ المطيعين ،في حين أنّ الرحيم إِشارة إِلى الرحمة تجاه العاصين ،إلاّ أنّه يجب أن لا يغفل عن أن هاتين الكلمتين عندما تفصلان يمكن أن تستعملا في معنى واحد ،أمّا إِذا اجتمعتا فتعطيان معنى مختلفاً أحياناً .