سبب النّزول
قال ابن عباس: لمّا قَدِمَ نبيّ اللّه المدينة ،كانوا من أبخس النّاس كيلاً ،فأنزل اللّه هذه الآية ،فأحسنوا الكيل بعد ذلك .
وقيل: كان تجار المدينة تجاراً يطففون ،وكانت بياعاتهم المنابذة والملامسة والمخاطرة ،فنزلت هذه الآية ،فخرج رسول اللّه( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقرأها عليهم وقال: «خمس بخمس » ،قيل يا رسول اللّه ،وما خمس بخمس ؟
قال: «ما نقص قوم العهد إلاّ سلط اللّه عليهم عدّوهم !
وما حكموا بغير ما أنزل اللّه إلاّ فشا فيهم الفقر !
وما ظهرت فيهم الفاحشة إلاّ فشا فيهم الموت !
ولا طففوا الكيل إلاّ منعوا النبات وأُخذوا بالسنين !
ولا منعوا الزكاة إلاّ حبس عنهم المطر !»{[5844]} .
وروى العلاّمة الطبرسي في مجمع البيان: إنّ رجلاً كان في المدينة يقال له ( أبو جهينة ) كان له صاعان ،يكيل بأحدهما ويكتال بالآخر ،فنزلت هذه الآيات{[5845]} .
التّفسير
ويلٌ للمُطفِّفين:
بدأ الحديث في هذه السّورة بتهديد شديد للمطففين: ( ويل للمطفّفين ) .
وتمثل الآية في حقيقة توجيهها ،إعلان حرب من اللّه عز وجل على هؤلاء الظالمين ،الذين يأكلون حقّ النّاس بهذه الطريقة القذرة .
«المطفّفين »: من ( التطفيف ) وأصله من ( الطف ) ،وهو جوانب الشيء وأطرافه ،وإنّما قيل لكربلاء ب ( وادي الطف ) ،لوقوعها على ساحل نهر الفرات ،و( الطفيف ): الشيء النزر ،و( التطفيف ): البخس في الكيل والوزن ،ونقص المكيال ،وهو أن لا تملأه إلى أصباره .
«ويل »: تأتي بمعاني: حلول الشرّ ،الحزن ،الهلاك ،المشقّة من العذاب ،واد مهيب في نار جهنم ،وتستعمل عادة في اللعن وبيان قبح الشيء ،ورغم صغر الكلمة إلاّ أنّها تستبطن مفاهيم كثيرة .
وروي عن الإمام الباقر( عليه السلام ) أنّه قال: «ولم يجعل اللّه الويل لأحد حتى يسميه كافراً ،قال اللّه عزّ وجل: ( فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم ){[5846]} .
وما نستفيده من هذه الرّواية هو: إنّ التطفيف فيه وجه من الكفر .
ملاحظة
التطفيف من عوامل الفساد في الأرض:
تعرض القرآن الكريم للتطفيف في الوزن مراراً ،ومن ذلك ما جاء في الآيات ( 181183 ) من سورة الشعراء ،حينما خاطب شعيب( عليه السلام ) قومه قائلاً: ( أُوفوا الكيل ولا تكونوا من الُمخسرين وزنوا بالقسطاس المستقيم ولا تبخسوا النّاس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين )
فالتطفيف في الوزن والكيل من الفساد في الأرض ،وذلك لما تنتج عنه من مفاسد اجتماعية ذات أبعاد واسعة .
كما جاء التأكيد في الآيتين ( 7 و 8 ) من سورة الرحمن على ضرورة الالتزام بالعدالة حين استعمال الميزان ،بعد الإشارة إلى أن العدل أصلٌ قد روعي فيه حتى نظام الخلق في عالم الوجود: ( والسماء رفعها ووضع الميزان ألاّ تطغوا في الميزان ) .
ولذا ،نجد أئمّة أهل البيت( عليهم السلام ) قد أَولوا هذا الموضوع اهتماماً بالغاً ،حتى روي عن الأصبغ بن نباتة ،أنّه قال: سمعت أمير المؤمنين( عليه السلام ) يقول على المنبر: «يا معشر التجار !الفقه ثمّ المتجر ،الفقه ثمّ المتجر ،الفقه ثمّ المتجر » إلى أن قال: «التاجر فاجر ،والفاجر في النّار ،إلاّ من أخذ الحقّ وأعطى الحقّ »{[5847]} .
وفي رواية عن الإمام الباقر( عليه السلام ) أنّه قال: «كان أمير المؤمنين( عليه السلام ) بالكوفة يغتدي كل يوم بكرة من القصر ،فيطوف في أسواق الكوفة سوقاً سوقاً ،ومعه الدّرة على عاتقه ( لمعاقبة المخالفين ) ،فينادي: يا معشر التجّار اتقوا اللّه عز وجل ،فإذا سمعوا صوته( عليه السلام ) ألقوا ما بأيديهم ،وأرعوا إليه بقلوبهم ،وسمعوا بآذانهم ،فيقول( عليه السلام ): قدموا الاستخارة ،وتبركوا بالسهولة ،واقتربوا من المبتاعين ،وتزيّنوا بالحلم ،وتناهوا عن اليمين ،وجانبوا الكذب ،وتجافوا عن الظلم ،وأنصفوا المظلومين ،ولا تقربوا الربا ،وأوفوا الكيل والميزان ،ولا تبخسوا النّاس أشياءهم ،ولا تعثوا في الأرض مفسدين ،فيطوف( عليه السلام ) في جميع أسواق الكوفة ثمّ يرجع فيقعد للناس »{[5848]} .
وبشأن نزول الآيات ،قال النّبي الأكرم( صلى الله عليه وآله وسلم ): «ولا طففوا الكيل إلاّ منعوا النبات واُخذوا بالسنين » .
وزبدة ما تقدم: يعتبر التطفيف في الميزان من العوامل الأساسية في عذاب وهلاك بعض الأمم السالفة ،حيث أدى ذلك إلى اختلال النظام الاقتصادي عندهم من جهة ،وإلى نزول العذاب الإلهي عليهم من جهة أخرى .
وقد حثّت الرّوايات الواردة في خصوص آداب التجارة على الأخذ ناقصاً والعطاء راجحاً ،أي بعكس سلوكية مَن ذمتهم الآيات المبحوثة ،فهم يأخذون بدقّة ويعطون ناقصاً{[5849]} .
وكما قلنا في تفسير الآية ،فثمّة من يذهب إلى أنّ مفهوم التطفيف أوسع من أن يحدد بالكيل والميزان ،ويمتد ليشمل أيّ إنقاص في عمل ،وأيّ تقصير في أداء وظيفة فردية أو اجتماعية أو إلهية .