وقوله:( فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ ) اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأه أبو جعفر القارئ ونافع وابن أبي إسحاق ( فإذَا بَرَقَ ) بفتح الراء، بمعنى شخص، وفُتِح عند الموت ; وقرأ ذلك شيبة وأبو عمرو وعامة قرّاء الكوفة ( بَرِقَ ) بكسر الراء، بمعنى:فزع وشقّ.
وقد حدثني أحمد بن يوسف، قال:ثنا القاسم، قال:ثني حجاج، عن هارون، قال:سألت أبا عمرو بن العلاء عنها، فقال:( بَرِقَ ) بالكسر بمعنى حار، قال:وسألت عنها عبد الله بن أبي إسحاق فقال:( بَرَقَ ) بالفتح، إنما برق الخيطل (7) والنار والبرق. وأما البصر فبرق عند الموت. قال:وأخبرت بذلك ابن أبي إسحاق، فقال:أخذت قراءتي عن الأشياخ نصر بن عاصم وأصحابه، فذكرت لأبي عمرو، فقال:لكن لا آخذ عن نصر ولا عن أصحابه، فكأنه يقول:آخذ عن أهل الحجاز.
وأولى القراءتين في ذلك عندنا بالصواب كسر الراء ( فَإِذَا بَرِقَ ) بمعنى:فزع فشُقّ وفُتِح من هول القيامة وفزع الموت. وبذلك جاءت أشعار العرب. أنشدني بعض الرواة عن أبي عُبيدة الكلابي:
لَمّــا أتــانِي ابْـنُ صُبَيْـحٍ رَاغِبـا
أعْطَيْتُــهُ عَيْســاء مِنْهــا فَـبرَقْ (8)
وحُدثت عن أبي زكريا الفرّاء قال:أنشدني بعض العرب:
نَعــــانِي حَنانَـــةُ طُوبالَـــةً
تَسَــفُّ يَبيســا مِــنَ الْعِشْــرقِ
فَنَفْسَـــك فـــانْعَ وَلا تَنْعَنِـــي
ودَاوِ الْكُلـــــومَ وَلا تَــــبْرَقِ (9)
بفتح الراء، وفسَّره أنه يقول:لا تفزع من هول الجراح التي بك ; قال:وكذلك يبرُق البصر يوم القيامة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال:ثني أبي، قال:ثني عمي، قال:ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله:( فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ ) يعني ببرق البصر:الموت، وبروق البصر:هي الساعة.
حدثني محمد بن عمرو، قال:ثنا أبو عاصم، قال:ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال:ثنا الحسن، قال:ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله:( بَرِقَ الْبَصَرُ ) قال:عند الموت.
حدثنا بشر، قال:ثنا يزيد، قال:ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:( فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ ) شخص البصر.
-----------------
الهوامش:
(7) من معاني الخيطل في اللسان:السنور، والكلب.
(8) الرجز من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن ( الورقة 182 ) عند قوله تعالى:{ فإذا برق البصر} . وأنشده أبو زكريا التبريزي في تهذيب إصلاح المنطق ( طبع القاهرة 75 ) قال:البرق ( بالتحريك ):أن يبرق البصر، وهو أن يتحير فلا يطرف، قال الأعور ابن براء الكلابي:كلاب مرة:"لما أتاني ابن صبيح ... "البيت. ومعه بيت آخر، وهو:
أعْطَيْتُــــهُ مَبْنِيَّـــةً دَأيَاتُهَـــا
مَــائِرَةَ الضَّبْعَيْـنِ سَـطْعَاءَ الْعُنُـقْ
قال صبيح:من هلال بن عامر، وكان الأعور خاله، فسأل ابن صبيح الأعور، فأعطاه ناقة من إبله، فذهب بها الهلالي، وهجا الأعور فقال:
أعْطَيْتَنِـــي سَــاقِطَةً أضْرَاسُــهَا
لَــوْ تَعْجُـمُ الْبَيْـضَ إذَنْ لَـمْ يَنْفَلِـقْ
مع أبيات غيرها فأجابه الأعور بقصيدة فيها البيتان المتقدمان. والدأيات:فقار الظهر، الواحدة دأية. والضبعان:العضدان.
ومائرة الضبعين:أي سريعة. والسطعاء:الطويلة العنق. ا هـ .
وفي ( اللسان برق ) وبرق بصره برقا ( كفرح فرحا ) وبرق يبرق بروقا ( كقعد يقعد قعودا ) الأخيرة عن اللحيان:دهش فلم يبصر. وقيل:تحير فلم يطرف. وفي التنزيل:{ فإذا برق البصر} وبرق ( من بابي فرح وقعد ) قرئ بهما جميعا. ا هـ . وقال الفراء في معاني القرآن ( 349 ):وقوله:{ فإذا برق البصر} قرأهل الأعمش وعاصم والحسن وبعض أهل المدينة:برق، بكسر الراء. وقرأها نافع المدني:برق البصر، بفتح الراء، من البريق لمن فتح عينيه أي:شخص. وقوله:برق ( بالكسر ) أي:فزع. ا هـ .
(9) البيتان في ديوان طرفة طبعة "أدرنه - ك "سنة 1909 ص 15 قال:وقال في شأن إبل أخيه، وكان بشبكة امرئ القيس، فوثب حنانة الحاجب ليضربه، فانتزع طرفة سيفه. فقال في ذلك، ولم يروها الشنتمري. وفي ( اللسان:حنن ) وحنانة:اسم راع في قول طرفة:"نعاني حنانة ... "البيت.
قال ابن بري:رواه ابن القطاع:بغاني حنانة، بالباء والغين المعجمة. والصحيح:بالنون والعين غير المعجمة، كما وقع في الأصول، بدليل قوله بعد هذا البيت:"فنفسك فانع ... "البيت. وفي ( اللسان:طبل ) الطوبالة:النعجة. ا هـ . ونصبها على الذم له كأنه قال:أعني:طوبالة. وتسف:تأكل. والعشرق:نبت معروف عندهم. وقوله "لا تبرق "فسره اللسان بقوله:لا تفزع من هول الجراح التي بك، وفسره شارح الديوان السابق الذكر:أي لا تهددني. وفسره الفراء في معاني القرآن ( 349 ) فقال:وقوله:{ برق} فزع، أنشدني بعض العرب:"نعاني حنانة ... "البيتين. فتح الراء أي:لا تفزع من هول الجراح التي بك. ا هـ .