أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:
بسم اله الرحمن الرحيم
{يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا}
المفردات:
بث: نشر وفرق ومنه وزرابي مبثوثة .( الغاشية 16 ) .
الأرحام: جمع رحم وهو في الأصل مكان تكون الجنين في بطن أمه ثم أطلق على القرابة .
رقيبا: الرقيب الحفيظ المطلع على الأعمال .
المعنى الإجمالي:
يا أيها الناس اتقوا الله ربكم الذي خلقكم وأوجدكم من نفس واحدة ،وأنشأ من هذه النفس زوجها ومنهما نشر في الوجود رجالا كثيرا ونساء فأنتم جميعا تنتهون إلى تلك النفس الواحدة ،واتقوا الله الذي تستعينون به في كل ما تحتاجون ،ويسأل باسمه بعضكم بعضا فيما تتبادلون من أمور ، ه واتقوا الأرحام فلا تقطعوها قريبها وبعيدها إن الله دائم الرقابة على أنفسكم لا تخفى عليه خافية من أموركم2 .
في أعقاب الآية:
1- الناس جميعا من أصل واحد ،تجمعهم رحم عامة تربط بين البشر جميعا ،قال تعالى: يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ...( الحجرات 13 ) .
2- ينتهي نسب الناس إلى آدم ،وآدم من تراب فقد خلق الله آدم من تراب ،ثم خلق حواء من ضلع آدم ليسكن إليها وتكون له سكنا وأمنا .قال تعالى:{ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة .( الروم 21 ) .
وروى البخاري في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"استوصوا بالنساء خيرا فإنالمرأة خلقت من ضلع وإنأعوج ما في الضلع أعلاه ،وإن ذهبت تقيمها كسرتها وكسرها طلاقها ،فاستمتع بها وفيها عوج واستوصوا بالنساء خيرا 3
والحديث يكرر الوصية بالنساء ،ويوصي بالصبر والاحتمال والمداراة ،لأن المرأة مجموعة من العواطف فقد شاء الله ان تكون عاطفة المرأة أكثر من عاطفة الرجل ،لتتحمل المرأة آلام الحمل والولادة والرضاع والكفالة ،وأن يكون جانبا العقل في الرجل أكثر ،ليتحمل البحث في سبيل الرزق ورعاية الأسرة وبالعقل والعاطفة تتم رعاية الأسرة وتلبي حاجة الرجل إلى المرأة وحاجة المرأة إلى الرجل .
3- جمهور المحدثين والفقهاء على أن الناس جميعا تناسلت من نفس آدم عليه السلام وليس هناك سوى آدم واحد ،وقد خلقت حواء من آدم وخلق الناس من آدم وحواء .
4- قال الفخر الرازي في تفسير: وخلق منها زوجها .والمراد من هذا الزوج هو حواء ،وفي كون حواء مخلوقة من آدم قولان:
الأول: وهو الذي عليه الأكثرون أنه لما خلق الله تعالى آدم ألقى عليه النوم ثم خلق حواء من ضلع من أضلاعه ،فلما استيقظ رآها ومال إليها وألفها ،لأنها كانت مخلوقة من جزء من أجزائه واحتجوا عليه بقول النبي صلى الله عليه وسلم:"إن المرأة خلقت من ضلع أعوج ،فإن ذهبت تقيمها كسرتها ،وإن تركتها وفيها عوج استمتعت بها ".
والقول الثاني: وهو اختيار أبو مسلم الأصفهاني أن المراد من قوله تعالى: وخلق منها زوجها .أي من جنسها وهو كقوله تعالى: والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا .( النحل 72 ) .
وقوله: إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم .( آل عمران 164 ) .
وقوله: لقد جاءكم رسول من أنفسكم ..( التوبة 128 ) .
قال القاضي: والقول الأول أقوى لكي يصح قوله: خلقكم من نفس واحدة .إذ لو كانت حواء مخلوقة ابتداء لكان الناس مخلوقين من نفسين لا من نفس واحدة4 .
5- قال صاحب الكشاف: ومعنى واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام .أراد بالتقوى تقوى خاصة ،وهي أن يتقوه فيما يتصل بحفظ الحقوق بينهم فلا يقطعوا ما يجب عليهم وصله فقيل: اتقوا ربكم الذي وصل بينكم حيث جعلكم صنوان مفرغة من أرومة واحدة فيها يجب على بعضكم لبعض ،فحافظوا عليه ولا تغفلوا عنه وهذا المعنى مطابق لمعاني السورة5 .
6- من سألك بالله شيئا فأعطه ما دمت تجد سبيلا للعطاء ،وأخرج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن جبان عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من استعاذ بالله فأعيذوه ومن سألكم بالله فأعطوه ،ومن دعاكم فأجيبوه ،ومن أسدى إليكم معروفا فكافئوه ،فإن لم تجدوا ما تكافئوه به فادعوا له حتى تعلموا أن قد كافأتموه "6 .
والحديث في معنى واتقوا الله الذي تساءلون به .أي يسأل بعضكم بعضا فيقول أسألك بالله كذا .
7- حثت الآية على صلة الرحم والإحسان إلى الأقارب وقد تكررت هذه الوصية في القرآن والسنة ،قال تعالى:{واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت إيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا} .( النساء 36 ) .
ورى البخاري عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من سره أن يبسط له في رزقه ،وان ينسأ له في أجله فليصل رحمه "7 .
وأخرج الإمام مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"الرحم معلقة بالعرش تقول من وصلني وصله الله ،ومن قطعني قطعه الله "8 .
وأخرج البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ليس الواصل بالمكافئ ولكن الواصل من إذا قطعت رحمه وصلها ".
وهذه الأحاديث تلتقي مع الآية في تأكيد الوصية بالأرحام قال تعالى:{واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام} أي اتقوا الأرحام أن تقطعوها ،فمن وصل رحمه وصله الله ،ومن قطع رحمه قطعه الله .
قال تعالى:{فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم} .( محمد 22 .
فصلة الرحم سبب البركة وهدوء النفس واستقامة الذرية وصلاحها ،وأما قاطع الرحم فهو مطرود من رحمة الله .
ارحم عباد الله يرحمك الذي *** عم البرية فضله ونواله
فالراحمون لهم نصيب وافر *** من رحمة الرحمن جل جلاله