قوله تعالى:{وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين} .
هذه الآية تكشف عن عظيم قدرة الله في هذا الوجود الهائل الكبير ،بأجرامه الزاخرة العظام وأجوازه النائية الممتدة وما فيه من خلائق كاثرة لا يحصي أنواعها وأجناسها وأفرادها غير الله جلت قدرته يسخر كل ما في الكون من أجرام لفعل ما يشاء أو يقضي ،فلا معقب لحكمه ،ولا راد لقضائه ،ولا يسأل عما يفعل .وليس أدل على ذلك من ابتداء هذه الآية بالفعل الماضي للمجهول{وقيل} فذلكم أمر إلهي قاطع ما له من تعقيب ولا دافع .
ويضاف إلى ذلك هذه الكلمات المعدودة المصطفاة التي حوتها هذه الآية على هذا النحو من متانة الرصف ،وجزالة الكلمات ،وروعة التناسق والإحكام ،وحلاوة الإيقاع المؤثر ،فضلا عما تحمله هذه الكلمات القليلة من كبريات المعاني الكونية الجسام ،كل ذلك في آية وجيزة سريعة يضمها سطر أو يزيد قليلا .إن هذا لعجاب ما له في النظم من نظير ؛فهو من نظم العالم الديان الخبير .
قوله:{يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي}{ابلعي}: اشربي من الابتلاع وهو الشرب أو الازدراد .و{أقلعي} أي أمسكي ؛فقد أمر الله الأرض بالابتلاع والسماء بالإقلاع ،فالأرض مأمورة بنشف الماء ؛أي شربه .والسماء كذلك مأمورة بالإمساك عن إدراك الماء .وقد تحقق ذلك بأمر الله دون إبطاء .فنشفت{[2101]} الأرض ما عليها من الماء ،وكفت السماء عن الانهمار{وغيض الماء} أي نقض وما بقي منه شيء{وقضي الأمر} أي أنجز وتحقق وعد الله لنوح بإهلاك قومه الظالمين ،وبنجاته هو والذين معه من المؤمنين{واستوت على الجودي} أي استقرت السفينة على ظهر الجودي ،وهو جبل بناحية الموصل .
قوله:{وقيل بعدا للقوم الظالمين} أ هلاكا وسحقا لهم على ظلمهم وطغيانهم وإجرامهم{[2102]} .
هكذا يقضي الله قضاءه في الكون والكائنات ؛فهو القادر القاهر ذو الملكوت ،يجازي المجرمين المتجبرين الذين يحادون الله ورسله ويسعون في الأرض خرابا وفسادا كقوم نوح ،أولئك الظالمون العتاة الذين أسرفوا في الإجرام والطغيان ،والذين آذوا نبيهم نوحا ،وهذا النبي العظيم الصابر الذي لقي من عنت قومه وكيدهم وظلمهم وإيذائهم ما يعلو ففوق طاقات البشر ،لكن نوحا عليه السلام قد اصطبر عليهم بالغ الصبر ،واحتمل من ألوان البلاء والطغيان والتكذيب والتنكيل ،ما استحقوا به من الله أن يأخذهم أخذ عزيز مقتدر ،فاستأصلهم استئصالا فلم تبق منهم بقية .