{ وقيل يا أرض ابلعي ماءك} أي وصدر من عالم الغيب الأعلى نداء خاطب الأرض والسماء ، بأمر التكوين الذي يسجد له العقلاء وغير العقلاء:يا أرض ابلعي ماءك كله الذي عليك ، أو الذي تفجر من باطنك ، إن صح أن ماء السماء صار بحرا ، والبلع ازدراد الطعام أو الشراب بسرعة{ ويا سماء أقلعي} أي كفي عن الأمطار فامتثل الأمر في الحال ، وما هو إلا أن قيل كن فكان{ وغيض الماء} أي غار في الأرض ونضب بابتلاعها له نضوبا{ وقضي الأمر} أي نفذ الأمر بإهلاك الظالمين ، ونجاء المؤمنين .
{ واستوت على الجودي} أي واستقرت السفينة راسية على الجبل المعروف بالجودي{ وقيل بعدا للقوم الظالمين} أي هلاكا وسحقا لهم ، وبعدا من رحمة الله تعالى بما كان من رسوخهم في الظلم واستمرارهم عليه ، وفقدهم الاستعداد للتوبة والرجوع إلى الله عز وجل ، وسيأتي مثل هذا في أمثالهم من أقوام الأنبياء{ ألا بعدا لعاد قوم هود} [ هود:60]{ ألا بعدا لثمود} [ هود:68] والظاهر أن هذا الجبل قد غمره الماء ولم يرتفع فوقه إلا قليلا ، فلما بلغته السفينة كان الماء فوقه رقراقا وبدأ يتقلص ويغيض فاستوت عليه .
قرر علماء البلاغة الفنية أن هذه الآية أبلغ آية في الكتاب العزيز أحاطت بالبلاغة من جميع جوانبها وأرجائها اللفظية والمعنوية التي وضعت لفلسفتها الفنون الثلاثة:المعاني والبيان والبديع ، وإن مثل هذا التفاضل بين الآيات الذي يقتضيه الحال والمقام ، لا ينافي بلوغ كل آية في موضعها وموضوعها درجة الإعجاز ، ولا يعد من التفاوت المعهود في كلام أشهر البلغاء كأبي تمام والمتنبي وكذا غيرهما من شعراء الجاهلية ومن بعدهم في الدرجات الثلاث العليا والسفلي وما بينهما ، فآياته كلها في الدرجة العليا المعجزة للبشر ، وإن كان لبعضها مزية على بعض كما تراه في تكرار القصة الواحدة من هذه القصص ، وقد بسطناه في تفسير آية التحدي{ بعشر سور مثله مفتريات} من هذه السورة .
مثال ذلك ما تراه من بلاغة هذه الآية في باب العبرة المقصودة بالذات من سياق هذه القصص كلها ، وهو فوق ما ذكروه من نكت الفنون فيها ، وبيانه أن الله قد أنذر الظالمين وأوعدهم الهلاك في آيات كثيرة – ومنهم مكذبو الرسل عليهم السلام- كلها معجزة في بلاغتها ، ولكنك ترى في هذه الآية من تأثير تقبيح الظلم والوعيد عليه نوعا لا تجده في غيرها ، لأن حادثة الطوفان أكبر ما حدث في الأرض من مظاهر سخط الله تعالى على الظالمين ، وقد علم من أول القصة أنها عقاب للظالمين ، بيد أن إعادته في هذه الآية عقب تصوير حادثة الطوفان بارزة في أشد مظاهر هولها ، وإشعار القلوب عظمة الجبار العزيز الحكيم في الفصل فيها ، بما تتلاقى فيه نهايتها ببدايتها .
والتعبير عن هذه النهاية بالدعاء على الظالمين بالبعد والطرد الذي يحتمل عدة معان مذمومة شرها الطرد من رحمة الله تعالى ، يمثل لك هؤلاء الظالمين من قوم نوح بصورة تمثال من الخزي واللعن والرجس لا ترى مثله في أمثالهم من أقوام الأنبياء ، على ما تراه في التعبير عنها بالعبارات الرائعة في البلاغة وعلوم الأسلوب ، وإحداثها الرعب في القلوب ، كقوله تعالى:{ كذبت عاد فكيف كان عذابي ونذر إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر فكيف كان عذابي ونذر} [ القمر:18- 21] وهذه الآيات في طبقة ما قبلها من قصة نوح في هذه السورة وقد أوردناها آنفا ، وقوله تعالى:{ كذبت ثمود وعاد بالقارعة فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية فهل ترى لهم من باقية} [ الحاقة:4-8] ؟ الخ وناهيك بما وصف به عذاب قوم لوط في هذه السورة وغيرها ، وسأصف الفرق بين البلاغتين المعنوية الروحية والفنية وإضراب المثل لجلالهما وجمالهما عند العرب الخلص وأهل الفنون من العلماء-في العلاوة الأولى من علاوات هذه القصة .
وحكمة هذه المبالغات في عقاب الظالمين والمجرمين من الغابرين ، إنما هي إنذار أمثالهم من الحاضرين ، وقد كرر عقوبة كل قوم في سورة القمر ، وكرر معها{ ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر} [ القمر:17] وترى الظالمين في كل زمان غافلين ، وترى المفسرين للقرآن يعنون ببسط إعراب القرآن وبلاغة عبارته ولفظه ، ولا يعنون ببسط عبرته ووعظه ، ولقد قال حكيم الشعراء أبو العلاء المعري في أهل عصره:
والأرض للطوفان مشتاقة لعلها من درن تغسل
ونحن نقول:رحم الله أبا العلاء فكيف لو رأى زماننا هذا ؟ كما قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وقد أنشدت قول لبيد:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في خلف كجلد الأجرب{[1756]}
قالت:رحم الله لبيدا فكيف لو أرى زماننا هذا ؟ رويناه مسلسلا إليها من طريق شيخنا أبي المحاسن الشيخ محمد القاوقجي رحمه لله وسنعقد فصلا للكلام على عقاب الله للظالمين والمجرمين في عصرنا بما نورده من علاوات هذه القصة .
/خ49