{ قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء} أي سألجأ إلى جبل عال يحفظني من الماء أن يصل إلي فأغرق{ قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم} أي لا شيء في هذا اليوم العصيب يعصم أحدا من أمر الله الذي قضاه ، فليس الأمر والشأن أمر ماء يرتفع بكثرة المطر كالمعتاد ، فيتقي الحازم ضره بما يقدر عليه من الأسباب ، وإنما هو أمر انتقام عام من أشرار العباد ، الذين أشركوا بالله وظلموا وطغوا في البلاد ، لكن من رحم الله منهم فهو يعصمه ويحفظه ، وقد اختص بهذه الرحمة من أمر بحملهم في هذه السفينة{ وحال بينهما الموج} وكان قد بدأ يرتفع في أثناء هذا الحديث حتى حال بين الولد ووالده{ فكان من المغرقين} الهالكين
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:( كان نوح مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم حتى كان آخر زمانه غرس شجرة فعظمت وذهبت كل مذهب ثم قطعها ثم جعل يعمل منها سفينة ويمرون فيسألونه فيقول أعملها سفينة فيسخرون منه ويقولون تعمل سفينة في البر فكيف تجري ؟ قال سوف تعلمون فلما فرغ منها وفار التنور وكثر الماء في السكك خشيت أم الصبي عليه وكانت تحبه حبا شديدا فخرجت إلى الجبل حتى بلغت ثلثه فلما بلغها الماء خرجت حتى استوت على الجبل فلما بلغ الماء رقبته رفعته بين يديها حتى ذهب الماء بها ، فلو رحم الله منهم أحدا لرحم أم الصبي ) .
هذا الحديث رواه من ذكرنا كلهم من طريق موسى بن يعقوب ، وقد قال الحاكم في مستدركه:هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه اه .يعني البخاري ومسلم وتعقبه الذهبي فقال إسناده مظلم وموسى ليس بذاك .وذكر في الميزان ووافقه الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب أنهم اختلفوا في موسى هذا وثقه ابن معين ، وقال النسائي:ليس بالقوي ، وقال أبو داود:هو صالح ، وقال ابن المديني:ضعيف منكر الحديث .
وقد وصف الله حدوث هذا الطوفان بقوله في سورة القمر{ كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر فدعا ربه أني مغلوب فانتصر ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر وحملناه على ذات ألواح ودسر تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر ولقد تركناها آية فهل من مذكر فكيف كان عذابي ونذر} [ القمر:9-16] وإنه لوصف وجيز ، في أعلى مراقي البلاغة والتأثير .
ما أفظع هذا المنظر ! ما أشد هوله ! ما أعظم روعته ! ماء ينهمر من آفاق السماء انهمارا ، وأرض تتفجر عيونا خوارة فتفيض مدرارا ، ماء ثجاج ، يصير بحرا ذا أمواج ، خفيت من تحته الأرض بجبالها ، وخفيت من فوقه السماء بشمسها وكواكبها ، وكانت عليه هذه السفينة كما كان عرض الله على الماء في بدء التكوين ، كأن ملك الله الأرضي قد انحصر فيها ، فتخيل أنك ناظر إليها كما صورها لك التنزيل ، تتفكر فيما يؤول إليه أمر هذا الخطب الجليل ، واستمع لما بينه به الذكر الحكيم ، أوجز عبارة وأبلغها تأثيرا ، جعلت أعظم ما في العالم كأن لم يكن شيء مذكورا .
/خ49