قوله تعالى:{ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} .
روى البخاري ومسلم والترمذي عن عبد الله بن مسعود في هذه الآية قال: بينا أنا أمشي مع النبي ( ص ) في حرث وهو متوكئ على عسيب ؛إذ مر اليهود فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح .فقالوا: ما رابكم إليه ؟ - أي ما الذي دعاكم إلى مثل هذا السؤال ؟فقد يجيبكم بما يسوءكم- فقالوا: سلوه ،فسألوه عن الروح .فأمسك النبي ( ص ) فلم يرد عليهم شيئا .فعلمت انه يوحى إليه .فلما نزل الوحي قال: ( ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي ) ويفهم من ذلك أن هذه الآية مدنية ؛فإن اليهود قد سألوا النبي ( ص ) عن ذلك بالمدينة مع أن السورة كلها مكية .والجواب عن هذا: أن هذه الآية ربما نزلت على الرسول ( ص ) بالمدينة مرة ثانية .كما نزلت عليه بمكة قبل ذلك{[2736]} وقد اختلف العلماء في المراد بالروح المسؤول عنه ؛فقد قيل: إنه جبريل عليه السلام .وهو الوحي الأمين ،والملك الهائل العظيم .وقيل: هو عيسى ،المسيح ابن مريم ،نفخة من روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول .وقيل: إنه القرآن ؛فهو كلام الله العجيب الذي ليس له في الكلام نظير .وهو روح يسري في كيان الإنسان فيؤزه إلى الإيمان وعمل الصالحات والطاعات أزّاً .وقيل: المراد بالروح هنا: ما به حياة الإنسان .وهو الراجح والمختار ؛فقد سألوا رسول الله ( ص ) عن ماهية الروح التي تعمر الإنسان وتنتشر في كيانه كله .والروح بهذا المعنى هو قول أكثر العلماء .فالروح سر الحياة وسببها الذي يعز على الذهن الوقوف على حقيقته وجوهره ولا ندري عن حقيقة الروح شيئا إلا ما نحسه من آثار وظواهر تدل على وجود هذا الكائن المبهم .ولذلك قال سبحانه: ( قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) الأمر ،هنا معناه الفعل ؛أي قل لهم: إن الروح من فعل الله ،وهي واقعة حادة وبتخليق الله وتكوينه ،وهي من الأمر الذي لا يعلمه إلا هو سبحانه دونكم ؛فأنتم لا تعلمون ذلك .
قوله: ( وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) المراد جميع الخلق وليس طائفة خاصة من البشر ؛فالناس جميعا لم يؤتوا من العلم إلا قليلا من كثير مما في علم الله .فعلمه واسع وشامل وقديم لا يدركه أو يحيط به من المخاليق أحد .وإنما يعلم الله وحده{[2737]} .