قال الإمام أحمد:حدثنا وكيع ، حدثنا الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله - هو ابن مسعود رضي الله عنه - قال:كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرث في المدينة ، وهو متوكئ على عسيب ، فمر بقوم من اليهود ، فقال بعضهم لبعض:سلوه عن الروح . فقال بعضهم:لا تسألوه . قال:فسألوه عن الروح فقالوا يا محمد ، ما الروح ؟ فما زال متوكئا على العسيب ، قال:فظننت أنه يوحى إليه ، فقال:( ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا )
فقال بعضهم لبعض:قد قلنا لكم لا تسألوه .
وهكذا رواه البخاري ومسلم من حديث الأعمش ، به . ولفظ البخاري عند تفسير هذه الآية ، عن عبد الله بن مسعود قال:بينا أنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرث ، وهو متوكئ على عسيب ، إذ مر اليهود فقال بعضهم لبعض:سلوه عن الروح ، فقال:ما رابكم إليه . وقال بعضهم:لا يستقبلنكم بشيء تكرهونه . فقالوا سلوه فسألوه عن الروح ، فأمسك النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرد عليهم شيئا ، فعلمت أنه يوحى إليه ، فقمت مقامي ، فلما نزل الوحي قال:( ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي ) الآية .
وهذا السياق يقتضي فيما يظهر بادي الرأي أن هذه الآية مدنية ، وأنها إنما نزلت حين سأله اليهود ، عن ذلك بالمدينة ، مع أن السورة كلها مكية . وقد يجاب عن هذا:بأنه قد يكون نزلت عليه بالمدينة مرة ثانية كما نزلت عليه بمكة قبل ذلك ، أو أنه نزل عليه الوحي بأنه يجيبهم عما سألوا بالآية المتقدم إنزالها عليه ، وهي هذه الآية:( ويسألونك عن الروح ) ومما يدل على نزول هذه الآية بمكة ما قال الإمام أحمد:
حدثنا قتيبة ، حدثنا يحيى بن زكريا ، عن داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال:قالت قريش ليهود:أعطونا شيئا نسأل عنه هذا الرجل . فقالوا:سلوه عن الروح . فسألوه ، فنزلت:( ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) قالوا:أوتينا علما كثيرا ، أوتينا التوراة ، ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيرا كثيرا . قال:وأنزل الله:( قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا ) [ الكهف:109] .
وقد روى ابن جرير ، عن محمد بن المثنى ، عن عبد الأعلى ، عن داود ، عن عكرمة قال:سأل أهل الكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح ، فأنزل الله:( ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) فقالوا يزعم أنا لم نؤت من العلم إلا قليلا وقد أوتينا التوراة ، وهي الحكمة ( ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ) ؟ [ البقرة:269] قال:فنزلت:( ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله ) [ لقمان:27] . قال:ما أوتيتم من علم ، فنجاكم الله به من النار ، فهو كثير طيب وهو في علم الله قليل .
وقال محمد بن إسحاق ، عن بعض أصحابه ، عن عطاء بن يسار قال:نزلت بمكة:( وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، أتاه أحبار يهود . وقالوا يا محمد ، ألم يبلغنا عنك أنك تقول:( وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) أفعنيتنا أم عنيت قومك ؟ فقال:"كلا قد عنيت ". قالوا:إنك تتلو أنا أوتينا التوراة ، وفيها تبيان كل شيء ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هي في علم الله قليل ، وقد آتاكم ما إن عملتم به استقمتم "، وأنزل الله:( ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم ) [ لقمان:27] .
وقد اختلف المفسرون في المراد بالروح هاهنا على أقوال:
أحدها:أن المراد [ بالروح]:أرواح بني آدم .
قال العوفي ، عن ابن عباس في قوله:( ويسألونك عن الروح ) الآية ، وذلك أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم:أخبرنا عن الروح ؟ وكيف تعذب الروح التي في الجسد ، وإنما الروح من الله ؟ ولم يكن نزل عليه فيه شيء ، فلم يحر إليهم شيئا . فأتاه جبريل فقال له:( قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، فقالوا:من جاءك بهذا ؟ فقال:"جاءني به جبريل من عند الله ؟ "فقالوا له:والله ما قاله لك إلا عدو لنا . فأنزل الله:( قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله [ مصدقا لما بين يديه] ) الآية [ البقرة:97] .
وقيل:المراد بالروح هاهنا:جبريل . قاله قتادة ، قال:وكان ابن عباس يكتمه .
وقيل:المراد به هاهنا:ملك عظيم بقدر المخلوقات كلها . قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله:( ويسألونك عن الروح ) يقول:الروح:ملك .
وقال الطبراني:حدثنا محمد بن عبد الله بن عرس المصري ، حدثنا وهب بن رزق أبو هريرة حدثنا بشر بن بكر ، حدثنا الأوزاعي ، حدثنا عطاء ، عن عبد الله بن عباس قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إن لله ملكا ، لو قيل له:التقم السماوات السبع والأرضين بلقمة واحدة ، لفعل ، تسبيحه:سبحانك حيث كنت ".
وهذا حديث غريب ، بل منكر .
وقال أبو جعفر بن جرير ، رحمه الله:حدثني علي ، حدثني عبد الله ، حدثني أبو نمران يزيد بن سمرة صاحب قيسارية ، عمن حدثه عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه قال في قوله:( ويسألونك عن الروح ) قال:هو ملك من الملائكة ، له سبعون ألف وجه ، لكل وجه منها سبعون ألف لسان ، لكل لسان منها [ سبعون] ألف لغة ، يسبح الله تعالى بتلك اللغات كلها ، يخلق الله من كل تسبيحة ملكا يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة .
وهذا أثر غريب عجيب ، والله أعلم .
وقال السهيلي:روي عن علي أنه قال:هو ملك ، له مائة ألف رأس ، لكل رأس مائة ألف وجه ، في كل وجه مائة ألف فم ، في كل فم مائة ألف لسان ، يسبح الله تعالى بلغات مختلفة .
قال السهيلي:وقيل المراد بذلك:طائفة من الملائكة على صور بني آدم .
وقيل:طائفة يرون الملائكة ولا تراهم فهم للملائكة كالملائكة لبني آدم .
وقوله:( قل الروح من أمر ربي ) أي:من شأنه ، ومما استأثر بعلمه دونكم ؛ ولهذا قال:( وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) أي:وما أطلعكم من علمه إلا على القليل ، فإنه لا يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء تبارك وتعالى .
والمعنى:أن علمكم في علم الله قليل ، وهذا الذي تسألون عنه من أمر الروح مما استأثر به تعالى ، ولم يطلعكم عليه ، كما أنه لم يطلعكم إلا على القليل من علمه تعالى . وسيأتي إن شاء الله في قصة موسى والخضر:أن الخضر نظر إلى عصفور وقع على حافة السفينة ، فنقر في البحر نقرة ، أي:شرب منه بمنقاره ، فقال:يا موسى ، ما علمي وعلمك وعلم الخلائق في علم الله إلا كما أخذ هذا العصفور من هذا البحر . أو كما قال صلوات الله وسلامه عليه ؛ ولهذا قال تبارك وتعالى:( وما أوتيتم من العلم إلا قليلا )
وقال السهيلي:قال بعض الناس:لم يجبهم عما سألوا ؛ لأنهم سألوا على وجه التعنت . وقيل:أجابهم ، وعول السهيلي على أن المراد بقوله:( قل الروح من أمر ربي ) أي:من شرعه ، أي:فادخلوا فيه ، وقد علمتم ذلك لأنه لا سبيل إلى معرفة هذا من طبع ولا فلسفة ، وإنما ينال من جهة الشرع . وفي هذا المسلك الذي طرقه وسلكه نظر ، والله أعلم .
ثم ذكر السهيلي الخلاف بين العلماء في أن الروح هي النفس ، أو غيرها ، وقرر أنها ذات لطيفة كالهواء ، سارية في الجسد كسريان الماء في عروق الشجر . وقرر أن الروح التي ينفخها الملك في الجنين هي النفس بشرط اتصالها بالبدن ، واكتسابها بسببه صفات مدح أو ذم ، فهي إما نفس مطمئنة أو أمارة بالسوء . قال:كما أن الماء هو حياة الشجر ، ثم يكسب بسبب اختلاطه معها اسما خاصا ، فإذا اتصل بالعنبة وعصر منها صار إما مصطارا أو خمرا ، ولا يقال له:"ماء "حينئذ إلا على سبيل المجاز ، وهكذا لا يقال للنفس:"روح "إلا على هذا النحو ، وكذلك لا يقال للروح:نفس إلا باعتبار ما تئول إليه . فحاصل ما يقول أن الروح أصل النفس ومادتها ، والنفس مركبة منها ومن اتصالها بالبدن ، فهي هي من وجه لا من كل وجه وهذا معنى حسن ، والله أعلم .
قلت:وقد تكلم الناس في ماهية الروح وأحكامها وصنفوا في ذلك كتبا . ومن أحسن من تكلم على ذلك الحافظ ابن منده ، في كتاب سمعناه في:الروح .